رجعت الى القاموس المحيط لكى أبحث عن معنى كلمة (ديموقراطية)، وحاولت أن أصل إلى فعل الكلمة، فقلت ربما يكون الفعل : يتدمقرط...دمقرط.. أى أصبح ديموقراطيا، فلم أجد أى شئ، وتذكرت فجأة أن (الديموقراطية) كلمة غير عربية، ولكنها كلمة من أصل أغريقى مكونة من كلمتين (ديمو)، (قراط)، ومعناها (حكم الشعب)، ولم أتعجب عندما لم أجد أثر لكلمة "دمقرط" أو "ديموقراطية" فى القواميس العربية، ولكنى وجدت كلمة "تمرمط"، ومنها "مرمطة"، "ومرمطون" أسم المفعول، ودائما العربى يكون أسم المفعول وقلما يكون أسم الفاعل !!، وبالرغم مما ندعى على العالم من ثراء اللغة العربية إلا أننى لم أجد أى مرادف لكلمة الديموقراطية، والمجمع اللغوى بجلالة قدرة أظهر قدرة فائقة على إستنباط كلمات عديدة جديدة على اللغة العربية، وعلى سبيل المثال لا الحصر : المسرة والهاتف (التليفون)، المذياع (الراديو)، الجوال و الخلوى والمحمول (تليفون الموبايل)، الرائى (التليفزيون)، الحافلة (الأتوبيس)، القمر الصناعى (الساتالايت)، شاطر ومشطور وبينهما طازج (السندويتش) !! وغيرها الكثير، إلا أن الذهن العربى تعطل وزرجن عن ترجمة كلمة الديموقراطية، حتى أن الكلمة برغم عدم (عروبيتها) إلا أنها أصبحت تطلق على التنظيمات السياسية، فأصبحنا نسمع عن "الحزب الوطنى الديموقراطى"، "الحزب الإشتراكى الديموقراطى"، "الجماهيرية الإشتراكية الديموقراطية المهلبية".

وفى تقديرى أن هناك أسباب عديدة لفشل العقل العربى فى إيجاد بديل عربي لكلمة (الديموقراطية):

أولا: معنى الكلمة غير موجود فى الضمير العربى، وغير موجود فى الأسرة العربية، وغير موجود فى الشركة العربية، وغير موجود فى الشارع العربى.

ثانيا: كثير من العرب، وخاصة المتطرفون منهم يعتقدون أن الشورى هى بديل الديموقراطية، وهذا غير صحيح، فالشورى كما يتضح من إسمها مجرد إستشارة للحاكم قد يأخذ بها أو يهملها (حسب مزاجه وغالبا ما يهملها، وخاصة إذا كانت شورى ممتازة)، ولكن (الديموقراطية) تعنى (حكم) الشعب، أى أن الموضوع حتمى وحكمى لا بد أن يؤخذ به. عندما خسر الرئيس بوش الأب الرئاسة لصالح (كلينتون) لم يقل أن رأى الشعب الأمريكى مجرد (شورى) وسأستمر فى الحكم، ولكنه أمسك التليفون (أو الهاتف علشان ما نزعلش العربان) وكان أول مهنئى (كلينتون). لذلك إعتقد الحكام العرب لقرون طويلة أنهم فى غنى عن الديموقراطية لأن لديهم (الشورى) وتلك الشورى غالبا ماتكون على مقاسهم، أما الإستشاريون (قلالة الأدب، والذين لا يقدرون مزاج الحاكم فيكون مصيرهم القتل والسجن والتهجير القصرى). والعالم المتقدم تجاوز (الشورى) من أكثر من ألفين عاما منذ بدايات الديموقراطية المباشرة فى أثينا.

ثالثا: مع الديموقراطية تأتى مسئولية ضخمة للشعوب، أولها مسئوليتها فى إختيار ممثليها على كل المستويات، إبتداء من رئيس بلدية قرية صغيرة حتى مستوى حاكم البلد كلها، وهذا يتطلب مشاركة كاملة، وعمل جاد على كل المستويات، ولكن العربان يجلسون على المقهى أو على المصطبة ينتقدون حكامهم على سوء إدارتهم ولا يرغبون فى أى مشاركة تتطلب عمل ومجهود وعرق، ولكن أصحابنا كسالى، ودائما يقولون :"همة ليه مابينضفوش الشوارع"، "همة ليه ما يزرعوش قمح كفاية"، "همة ليه سايبين الأسعار ترتفع"، "همة ليه مش بيوفروا وظائف لأولادنا"، وعلى رأى (محمود السعدنى) فى مقالته بأخبار اليوم قبل بدء الهجوم الأمريكى على العراق للإطاحة بصدام، قال بالحرف:"أنصح الرئيس بوش بأن يأخذ قواته ويرجع بلده، لأن العراقيين مبسوطين كده ومرتاحين كده (من غير ديموقراطية ولا دياولو)"!!

رابعا: الإنتخابات الحقيقية فى تاريخ العالم العربى حدثت دائما تحت الإحتلال الأجنبى: إنتخابات مصر قبل 1952 كانت كلها تحت الإحتلال الإنجليزى، وكلما كان يتدخل الملك فاروق (المصرى العربى) أو أحد معاونيه إلا وكان يحدث تزوير فى الإنتخابات، إنتخابات العراق التى تمت فى عشرينات القرن الماضى تمت تحت الإحتلال الإنجليزى، إنتخابات فلسطين الأخيرة تمت تحت الإحتلال الإسرائيلى، إنتخابات العراق هذا الأسبوع ستتم تحت الإحتلال الأمريكى وتحت الحراسة المشددة، لأن العربان والمتأسلمون منزعجون من الديموقراطية لأنها ستجلب عليهم وجع الدماغ والعمل والإجتهاد والإتقان وكلها أشياء ليست فى الأجندة العربية ‘ لذلك يرغبون فى (ضرب الكرسى فى الكلوب لتبويظ فرح الديموقراطية، ولكى يقلبوها ضلمة كما كانت، أيام المغوار صدام ورفاقه الأشاوس، على فكرة الأشاوس مفردها إيه؟!!). لذلك يفضلون نار الطغيان العربي ولا جنة الديموقراطية الغربية.

خامسا: العربان يأخذون كل شئ من الغرب الكافر ‘ إلا الديموقراطية التى يعتبرها بعض المتطرفون فى بياناتهم الأخيرة أنها رجس من عمل الشيطان، إنظر حولك فستجد نفسك تعيش عالة على الحضارة الغربية، بدون الأدوات التى أنتجتها تلك الحضارة فسوف تعود الى حياة أهل الكهف وأهل البادية والماعز والناقة وكوخ القش.

***

من أكثر فضائح العهد الناصرى فى حقبة الخمسينات أن عالم القانون العظيم (عبد الرازق السنهورى) رئيس مجلس الدولة وقتها طالب الضباط (الأحرار) الشبان بالديموقراطية، فما كان من الزعيم الملهم ناصر إلا أن نزل عليه (الإلهام) وأرسل عددا من زبانيته يحاولون الإعتداء على (السنهورى) و يهتفون أمام مبنى مجلس الدولة لأول وآخر مرة فى التاريخ " تسقط الديموقراطية"!! لذلك فإن زعامة أمثال عبد الناصر وصدام على العرب كانت زعامة حقيقية، لأنه منهم ويمثلهم تماما، وقد أطمئن العرب إليهم تماما حتى غفروا لهم أكبر جرائمه وحولوا كل هزائمهم الى إنتصارات، وكانوا يقولون لهم فى كل مناسبة عبارة الطفلة الموهوبة (فيروز) فى فيلم( دهب) أمام (أنور وجدى وليلى مراد) : "إنت بابا...وأنت ماما... وإنت كل شئ فى حياتى"!!

***

وليس أمامى سوى التفاؤل بالإنتخابات العراقية حتى لو لم يشارك فيها %99.99 من الشعب إلا أنها تظل أفضل من الدكتاتورية، وأنا واثق أن الشعب العراقى الذى عانى الكثير من القريب والغريب والحبيب سوف يجد كلمة عربية جديدة تجسد معنى الديموقراطية، وحتى وإن لم يجد يكفى أن نطلق عليها كلمة (الحرية).

[email protected]