يبدو ان البعض من مثقفينا العرب اصبحوا مهووسين بعقدة (الرئاسات) و(الزعامات) وحلموا با ن يكونوا اصحاب (قيمومة) على اجندة القرار السياسي وممارسة الصناعة السلطانية والتعويض عن خسارات قديمة لم يمارس فيها المثقف سوى دور المهرج وكاتب السيرة ومربي الاولاد على الفصاحة والبداوة واداب المائدة وحقوق العائلة الذهبية وتحريك الغرائز والاعصاب المنطفئة !!واحسب ان هذا الحلم اصبح تعويضيا بعد ان ادرك هذا البعض ان القرار الثقافي صار (فالصو) ازاء ما هو سياسي وحكومي، خاصة بعد ان اصبحت الحكومات العربية مخترقة وقابلة للانزياح بعد دخول العصر الامريكي مرحلة الهيلمان ! وبعد شيوع ماسمي بثقافات المجتمع المدني وحقوق الانسان ودخول العقل الحكومي العربي الى منتدى المستقبل الاصلاحي!
وكأنهم بهذه الطقوسية الباسلة يحلمون باعادة انتاج رومانسية مشروع طه حسين حين دعا الى فرض مجانية التعليم وممارسة الحق الثقافي وتحسين اداء الاكاديميات وتمهيد الطريق لدخول الاحتراف الثقافي العربي الى ميدان الاحتراف السياسي الذي كان حكرا على ابناء العوائل الحاملة للدم الازرق ! هذه الرمانسية جزء من بصيرته الحاذقة وجزء من خطاب صدمته بالثقافة الفرنسية وانماطها وطرائق تكريسها في السلوك التعليمي والمدني حدّ اكتسابها كعادات و حقوق في قانون المواطنة...
ولعل ادلّ على هذه الممارسة الخارجة عن العادة والمألوف تصريحات الروائية والباحثة والطبيبة نوال السعداوي بعد اعتزامها ترشيح نفسها لانتخابات رئاسة الجمهورية التي ستجري قي مصر في خريف 2005....
لقد قالت نوال السعداوي لوكالة فرانس برس "سارشح نفسي لانتخابات الرئاسة ليس للفوز ولكن من اجل تحريك الشعب المصري والدفع باتجاه تعديل الدستور ومواجهة الفساد ومحاربة الاستعمار الامريكي،،، سارشح نفسي لتحريك 70 مليون مصري ومصرية،، فالشعب المصري مازال متفرجا وليس له صوت وانها تأمل تغيير نظام التعليم وفي القوانين بحيث تكون عادلة بما فيها قانون الاحوال الشخصية، حتى لاتكون هناك تفرقة على اساس الدين او العرق او الطبقة او المهنة".
يبدو ان هذا الاعلان الرئاسي قابل للقراءة والمساءلة، فهو يحمل سمات من الحقوق المدنية والشرعية، وضرورة تغيير النوع الرئاسي والحكومي، لكن معطيات الارض وقوانينها التي فرضتها استحقاقات امتدت من حروب المقاومة الى حروب التحرير الى حروب رومانيسة البناء الوطني والتاميم والقطاع العام وحقوق اليسار السياسية الايديولوجية وصولا الى حقوق فرض قوانين الطوارىء والسلامة العامة، تجعل هذه الحقوق بحاجة الى مراجعة دائمة والبحث عن كيفيات واقعية لتحويلها الى سلوك والى فضاء للجدل الحر النظيف الخالي من التصفيات المتبادلة !!! فضلا عن ان مفهوم الحقوق ذاته يحتاج الى مراجعة تاريخية ونفسية وسلطانية ! اذ سنكتشف وقتذاك انه مفهوم مخلوط بالكثير من الاوهام والتأويلات وتعدد القراءات،، مع علمنا الشديد بان ثقافتنا العربية تملك رصيدا عاليا من الوهم والذوبان في متاهة القانون الحكومي واجندة العائلة الحكومية وقراءة حقوق الفرد في سياقه الصراعي ‘ فضلا عن ان المثقف العربي وارث جيد للجينات الوهمية، وان عاداته الكتابية ومزاجيته تحمل الكثير من روح العناد والقسوة وصناعة الاطمئنانات المغشوشة، وهذا مايجعل لعبة شراء ثياب السلطان والنوم في مخدعه السري ومعاشرة نسائه السريات وقراءة الملفات الشخصية امرا ليس من السهل قبوله والتعاطي معه على اساس النظرية المقدسة للحقو ق والواجبات، حتى وان جاء من العائلة المثقفة العارفة بشجون العباد واحزانهم الطويلة.. ان هذا المثقف قد يرمي حجرا في بركة التماسيح وقد يخرج لاول مرة عن اغطيته الثقيلة وقد يطالب بزيادة مفردات قائمة حقوقه المدنية، وقد يعيد انتاج رومانسية المرحوم طه حسين في التمرد على قوانين المؤسسات وشروط اختيار المعلم والوزير ! لكن الحصول على الثقة البرلمانية ومجالس الشعب وبنسب الثلثين وربما اكثر، فان ذلك يتجاوز حقوق الثقافة والمثقف ودوره في (حروب الحضارات) وصلاحيات الاصلاح وتداعيات ما تفرضه اجندات السياسي والاقتصادي وسط عالم تتجوهر مشاكله وعقده عند صراع كوني لانملك حقوق تصديره والخلاص عنه،، ولعل من اغرب ما يسوقه لنا هو حكايات الاصلاح والدمقرطة وشرعنة الحقوق،، ولكنه لايصدق ايضا ان منقذي الامة من هذه الغمة هم المثقفون،، فهم في نظره مروجو اوهام ومسوقو بضائع من الصعب تداولها في زمن الهيلمان الامريكي..

[email protected]