أخيراً، هناك خبر عربيّ سعيد: لم يكن العربُ في يوم ما واضحين ومتطابقين مع ذواتهم كما هم اليوم.

هذه الميزة (الوضوح) التي اكتسبها العربُ ـ متأخرين كالعادة ـ هي أحدى آثار الوضوح السياسيّ الكوكبيّ الذي افتتحه عصر الإشهار الأميركيّ، وهي أيضاً سمةٌ مرحّلة من الخطاب الجهاديّ اللادنيّ الذي تسرّب بقوّة إلى خطاب المثقفين العرب القوميين، لأن هؤلاء لحظوا خواء كراريسهم أخيراً في مقابل قداسة قراطيس الإسلاميّ المقروءة في دنيا العرب بألسنٍ الدهشة والإكبار. فالوضوح يستنفرُ الآن حشود المثقفين القوميين لقول ما لم يجرأوا على قوله أبداً وإخراج المسلّمات الصامتة التي كانوا يتسترّون عليها بصنوفٍ من الشعارات التي أُفرغتْ من محتواها مذ علتْ النبرةُ الجهاديّة على كل صوت.
(نحن أعداء الديموقراطية وأعداء من يؤمن بها) هذه الجملة ـ الكنز لم يحدثْ أن قيلتْ من قبلُ في خطابٍ سياسيّ، لكنها تقال اليوم علناً في زمنٍ بدا ان العربيّ أُجبرَ على إلقاء أسلحته البلاغية التي كانت تسمح له أن يبكي حبراً كثيراً على الديموقراطية في عين الوقت الذي يتطامن وجدانه مع أحطّ غرائز الاستعباد التي أتتْ بها الحركة القوميةُ العربية المحتضرة وتيارات الاسلام السلفيّ التي تخوض معركتها الأخيرة في العراق.
جملة الزرقاويّ هذه التي ضمّنها خطابه الأخير قبيل انتخابات العراق التأريخية لم تكنْ بداية تخلّي العربيّ عن نفاقه التقليديّ لكنها كانت أوضح العبارات في هذا الصدد، فقد سبقه إلى هذا الوضوح كثير من الاسلاميين والعروبيين، وإن بشكلٍ خجولٍ نظراً لعدم حيازتهم الرأسمال القدسيّ الذي لا يليق إلا بشيخ مجاهد كالزرقاويّ. قالها باقر الصرّاف حين أسهبَ في تفضيله السلطان الغشوم، اي صدام حسين (الذي يسميّه الصراف رمز الدولة العراقية) على ديموقراطية "تحت حراب الاحتلال"، وقالها اليوم بالذات غسان الإمام في "الشرق الأوسط" : حريّة العراق خطر على العروبة.
طوال قرن كامل كان العرب يتسترون على طائفيتهم بألوانٍ من الإجماع المرتجَل تحت عبارة الأمة العربية الواحدة، التي كانت واحديتها لديهم أشبه بالضمانة الإلهية،بحيث بدتْ أكبر من كل الوقائع التي تثبت عياناً ان الناطقين بالعربية شعوبٌ متمايزة وأن الحدود التي تفصل الدول ليست مصطنعة بالكامل كما ينصّ كتاب الوطنية للسادس الإبتدائيّ أو كتب عفلق والحصريّ وخطب عبد الناصر.
أدهى من ذلك نكرانهم لتلك الحدود الأقسى والأكثر غلظة بين الشعوب التي ارتضت العيش بين ظهراني دولٍ خُتمتْ بختم العروبة قسراً، أعني التمايز الطائفيّ والعرقيّ بين أبناء الدولة الواحدة، وهو نكرانٌ يصيب مفهوم الدولة ذاته بالشلل كما حدث للدولة العراقيّة التي كانت عروبتها المفروضة أشبه بكأس سمّ يُدار به على المواطنين العراقيين كورداً وتركماناً وآشوريين ومندائيين وعرباً!
لم يكن العربيّ القوميّ يذكر الطائفية الا متبوعة بلفظ (المقيتة)، فلم يكن وارداً أن يشير إلى الطوائف بأسمائها أبداً، لكن الطائفية كانت حيّة، بل كانت المسلّمة اللاشعوريّة التي أريد لها أن تُطمرَ بالهذر المتصّل عن (الأمة الواحدة). ذاك أن العروبة السياسيّة ـ ككلّ نتاج بدويّ ـ لم تكن تخاطب الفردّ بل المجموع. وهذه الهويّات الصغرى (كالطائفة والأقلية العرقية) شعار فرديّ يتعارض والشعار النبويّ الملحميّ الذي قام من أجله العروبيون منذ منتصف القرن السابق، أولئك الذين سماهم عفلق بالأنبياء الصغار.
لا تعترف البداوة إلا بالبداهة سبيلاً للحقّ. والبداهةُ تقول بالاجماع في مقابل التشتت والوحدة ضداً للفرقة والكلّ على حساب الجزء، وبالتالي الفكرة على أنقاض الواقعة. وهكذا فان العروبيّ أعفته بداهةُ أمته الواحدة عن التفكير بـ(مكوّناتها) التي تستلزم إعمال فكرٍ من لدنه. وكلّ إعمال الفكر يناقض البدهيّ بالضرورة.
كان يكفي العربيّ أن يصم الطائفية بالبغض ليعبر بعدها قُدماً إلى هدفه الملحميّ ، صوب أمةٍ ذات رسالة خالدة لا أحد يعرف للآن أين على وجه التحديد موقعها. لهذا تجد العالم فقيراً في مدوّنات القوميين بعد أن ردّوا الاختلاف إلى تماثل والتفاوت إلى تطابق وتمتْ تصفية كل مكونات الشعوب في المنطقة المحصورة من الخليج الى المحيط تحت مسمى الأمة. وهذا الإفقار المتواصل هو الذي جعل بلداناً تمتلك مؤهلات نهضة عظيمة على مختلف الصعد، تحبس مواطنيها في قمقم العروبة بوصفهم "جزءاً" من أمةٍ هي معادل خياليّ لحبّ الاتحاد والاجماع المعبَّر عنه بكثرة في الأدب العربيّ القديم حكماً وأمثالاً.
هكذا ترى إلى أن ما يقع للعرب ظلّ بلا أدنى فاعلية في صياغة الحقيقة (القومية) وأقوالها التي هي أقوال قَبْلية مطلقة. لم يكن برهان القوميين واقعياً فكانوا يضطرون ـ حين يجدون أنفسهم وجهاً لوجه أمام نوازل تسخر من واحدية أمتهم وصفائها ـ إلى التكذيب والإنكار أو الصمت في أحسن الأحوال. وبتوفّر القوميين العرب على هذا الكمّ الهائل من الحمولة الإنكارية كانت السياسةُ العربية ـ تنظيراً وممارسة ـ مجرد غيبوبة كبيرة لم يكسرها شعار صدام "لا شيعة بعد اليوم" ولا ضرب حلبجة بالكيمياويّ ولا الأنفالات ولا جرائم الإبادة في حمص وحماه. كان مقدراً للعربيّ أن يستفيق من غيبوبيته على وقع بساطيل المارينز تطأ أرض العراق الذي ظهر ان وجهه العربيّ قابلاً للمحو كما أنبأنا بذلك غسان الأمام في مقاله آنف الذكر، لا بل أن وجه (الأمة) ذاتها يمكن أن يسيل المكياج عنه لتتبدى ملامحه غير العروبية كما بشّرنا الملك عبد الله الثاني الذي كان ثاني اثنين شهدا شهدا بثبوت رؤية الهلال الشيعيّ ، بعد مواطنه الزرقاويّ الذي أشار هو الآخر الى الهلال الذي ظلّ في فم الحوت قروناً.
انه أمر جلل غير مسبوق ، بل مدهش أن يبتعد الخطاب العربيّ السياسيّ كلّ هذه المسافة عن النفاق ليتبدى بهذا الوضوح والشفافيّة في التعبير عن مكوّن أساس من مكونات الذات العربية، أعني الطائفية في ذروة انحطاطها حين لا تطيق رؤية مواطنين ذوي هويّاتٍ صغرى ودولٍ يتمّ تداول السلطة فيها بعيداً عن التغالب العربيّ التقليديّ الذي يمقت صندوق الاقتراع ويرى فيه ما رآه غسان الإمام (عدوّاً للعروبة)، لا بل ان الإمام نفسه لم يستطع كباح جماح (عروبته) فوصف العراقيين وصفاً هو الأكثر صراحة لحدّ الآن في التعبير عن كراهية العرب للعراقيين، قال انهم (قطعانٌ تسوقهم فتوى من طائفيّ هو السيستانيّ).
الهلال الشيعيّ الذي رآه جلالة الملك يشعّ على قطعان العراقيين الذاهبين الى الانتخابات في ظلّ تهديد بطلُ الزرقاء المجاهد ليس فيه من حصة للعرب. هذه الحقيقة اكتشفها العرب متأخرين. اكتشفوا ـ واكتشفنا معهم ـ ان حصة العرب من العراق ليست أكثر من هؤلاء الملثمين حاملي السكاكين الذين يريدون للزمن أن يعود القهقرى إضافة إلى بعض رموزٍ سيتقادم عليها الزمن (صدام والفلوجة) إلى أن تصطفّ في ذاكرة العربيّ ووجدانه مع رموز الأندلس والقدس لتزداد حوائط المبكى العربية حائطاً آخر اسمه العراق.
إن ضوح القوميين والاسلاميين العرب في التعبير عن كراهيتهم للعراقيين أمر مفرح وإن كان متأخراً. هذه بشائر علاقة طبيعية قادمة لنا مع العروبة بوصفها مكوّناً ثقافياً يدعو للفخر والاعتزاز لا هياجاً أعمى مهمته الوحيدة تخريب دولٍ أقيمت قبل أن يُكتشف حرف الضاد بآلاف السنين!

لكنه سيظلّ فرحاً ناقصاً ما لم نفهمه نحن العراقيين ونتصرف وفقاً له.

http://aqwas.com