تبدو لي اللعبة الكومبيوترية الدارجة المسمّاة "مفاتيح القلعة"، تدريباً رياضياً مدهشاً على حراك الانتخابات الأميركية، حيث يتنافس المشاركون بقدراتهم على الخداع والتخطيط في مناخ من عدم اليقين الشامل، من أجل تحصين القلعة وضمان رفاه شعبها، لتحسم اللعبة حنكة اللاعبين إضافة لعوامل موضوعية غاية في التعقيد.

ندرك بالطبع أنّ من التبسيط والخفة أن نطلب من المخطّطين الاستراتيجيين للحملات الانتخابية الأميركية التنبؤ بمآلاتها، فنحن نعلم انّ جلّ ما يمكنهم كبشر، هو تقدير السيناريوهات والاحتمالات.

في متابعتها لحراك البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، عملت مراكز الدراسات المجتمعية والسياسية الأميركية على استكشاف المؤشرات المفتاحية لهذه الأحجية الدورية. وتستخدم رياضيات الفوضى ونظريات الألعاب وألعاب المحاكاة، أدوات يومية، وتقيم بشكل حي المؤشرات بحسب النتائج على مدى عقود. وإذ يدرك العلم قصوراته، فإنّه يدرك أيضاً مصادر قوته. لذلك حسبنا أن ننتج السيناريوهات ونؤشر إلى ترجيحها. فلقد "كذب المنجمّون ولو صدقوا".

إضافة إلى ذلك، أمكن للباحثين التعرّف على مؤشرات حاسمة أخرى لا يمكن التحكّم بها، وخارجة تماماً عن السيطرة، ويمكن ان تغيّر مجرى الأحداث. لذلك، لا ندّعي التنبؤ، بل نبني سيناريوهات احتمالية.

لكن، مع اقتراب موعد الانتخابات، تضيق السيناريوهات ويسقط او يحسم بعضها، ويشذب الباحثون تقديراتهم وصولاً إلى ترجيحات غالبة.

وبعد، في هذا السياق ثمة مئات من المؤشرات المفتاحية المكتشفة، لكننا سنوجز هنا بعضها فحسب:

1: تفويض الجمهور. يستند هذا المؤشر إلى ترجيح الحزب الذي فوّضه الشعب في انتخابات التجديد النصفي في مجلس النواب بالتحديد. وبالنسبة إلى الانتخابات المقبلة، يعمل هذا المؤشر لمصلحة الحزب الجمهوري، وإن كان يعُتبر عاملاً قلقاً حتى الآن.

2: مستوى التنافس بين المرشحين ضمن الحزب الواحد، ورغم طغيان كل من بايدن وترامب على البيئة السياسية في حزبه، لكن الخبراء يلاحظون انّه فيما كان الحزب الجمهوري يتمتع في السابق بقاعدة أضيق لكن بوحدة غالبة، فلقد أدّت سياسات ترامب الحادّة إلى شقوق في نواته الأساسية، فيما عمل بايدن على توسيع قاعدة تحالفاته داخل حزبه.

3: ترشيح الرئيس الحالي لنفسه. وهو مؤشر يعطي ميزة الاستمرارية للرئيس الراهن.

4: قوة "المرشح الثالث"– كينيدي – كمنافس. لكنه في هذه الحالة لا يُعتبر منافساً معتبراً، إذ تشير استطلاعات الرأي حتى الآن إلى انّه يأخذ من أصوات ترامب ضعف ما يأخذ من أصوات بايدن.

5: الأداء الاقتصادي الراهن، الذي يؤثر بشكل كبير في الانتخابات، بخاصة في ما يتعلق بالبطالة واستقرار سوق المال. لقد عالج الاحتياطي الفدرالي الأزمة بفرض أعلى نسبة للتضخم منذ 40 عاماً. ورفع أسعار الفائدة 11 مرّة بهدف تهدئة الاقتصاد. وأنفقت الحكومة الفدرالية 5 تريليونات دولار للحفاظ على حيوية الاقتصاد. في حينه، توقّع الاقتصاديون وأعضاء الكونغرس حدوث ركود اقتصادي شامل، لكن على العكس، ارتفعت دينامية الاقتصاد وتراجع التضخم، فيما اقتربت البطالة من أدنى مستوياتها لـ50 عاماً (3.7٪)، بعد إضافة أكثر من 5 ملايين وظيفة.

6: الاقتصاد الطويل الأجل، ويعكس هذا المؤشر النمو الاقتصادي الحقيقي للبلاد، على المدى المتوسط ومقارنة بمتوسط النمو لفترتين سابقتين. ويعتبر هذا المؤشر غير محسوم ومصدر قلق لبايدن، فهو يحتاج بشكل ملحّ إلى ألّا يبقى ارتفاع الأسعار هاجساً يومياً لدى الأميركيين. لذلك يرتدي تخفيض التضخم، أهمية قصوى. ورغم انخفاض التضخم من 9٪ إلى حوالى 3٪، لا يبدو انّ بالإمكان تخفيض أسعار الفائدة بشكل وشيك، حتى يتضح بمزيد من الثقة انّ انحدار التضخم نحو الحد المستهدف 2٪ .

7: تغيير السياسة، في تجارب سابقة شعر الجمهور بحاجة ملحّة لتغييرات آنية في السياسة الوطنية للإدارة. ولعب هذا المؤشر دوراً مهماً في موقفه. وأهم أمثلة هذا المؤشر تعثر سياسات ترامب بخصوص كوفيد. لذلك يعمل هذا المؤشر حتى الآن لمصلحة بايدن لجهة الحوكمة الفعّالة والقدرة على إنجاز الصفقات مع الجمهوريين.

8: الاضطرابات الاجتماعية، لعب هذا المؤشر بقوة في التوجّهات الانتخابية للأميركيين. لكن تقدير الخبراء انّ الاضطرابات الراهنة في الجامعات لم تنضج بعد إلى حدّ يُقارن بالاضطرابات الاجتماعية الواسعة في السبعينات لمئات الآلاف من الشباب، حيث تمّ احتلال كامل للمدن والجامعات. ولا تزال الاحتجاجات الحالية بعيدة من أن تعبّر عن أزمة اجتماعية وطنية شاملة. رغم ذلك، يتابع المراقبون هذه الاضطرابات بدقّة، بخاصة خلال العطلة الصيفية، ويتابعون بشكل خاص احتمال اكتسابها لشعارات اجتماعية داخلية. لذلك يُعتبر هذا المؤشر مصدر قلق نسبي لبايدن.

9: حصول فضيحة كبيرة تلوث الإدارة الحالية، لم تحصل فضيحة بائنة مرتبطة بهانتر بايدن، بخاصة بعدما أعلنت FBI انّ الشاهد الرئيس كان مرتبطاً بالأجهزة الروسية.

10: الفشل أو النجاح الدبلوماسي او العسكري، حيث يُنظر حتى الآن إلى هذا المؤشر لمصلحة بايدن بشكل عام، باستثناء موقفه من غزة الذي يُعتبر إخفاقاً نسبياً لبايدن. لكنه في المقابل لا يعكس نجاحاً لترامب.

11: الكاريزما، ويقدر هذا المؤشر لمصلحة ترامب الذي يتفوق بوضوح على بايدن.

وبشكل عام، تفترض بعض الدراسات ان يسقط الرئيس الحالي وينجح منافسه، في حال كانت 6 من هذه العوامل المفتاحية سلبية بالنسبة إلى الرئيس الحالي. وفي هذه الحالة من المرجح ان يفوز المرشح المنافس.

كما نرى هنا، لا يزال الوضع بعيداً من الحسم. لكن ثمة مؤشرات جديدة ومؤثرة، على المدى المتوسط. من أهمها التحولات الديموغرافية، مثل صعود جيل الشباب وميلهم نحو يسار الوسط، إضافة الى المؤشرات الديموغرافية الأخرى مثل صعود دور الأميركيين السود والنساء واللاتينيين والمسلمين، وهي مؤشرات تلعب عادة لمصلحة الديموقراطيين. لكن برامج هذه الفئات لا تزال بعيدة عن أجندة انتخابية موحّدة.

إضافة لكل ذلك، ثمة عامل مهمّ وجديد، يزيد حالة عدم اليقين. انّه انخراط المستقلين في الانتخابات. فلقد اظهر هؤلاء قلقهم على وضع البلاد، وصوّتوا في الانتخابات النصفية لمصلحة عامل الاستقرار. كما ستلعب التقنيات الجديدة ووسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي دوراً لا يمكن تقدير أثره بشكل حاسم الآن.

مع اقتراب الانتخابات، يسمح تحليل هذه المؤشرات بشكل تكاملي، ببناء سيناريوهات للانتخابات وترجيحها بشكل متزايد الدقة، آخذاً بالاعتبار الاتجاهات الهيكلية والتأثيرات السياقية والآنية للانتخابات.

نعم، وبعد هذه المعمعة، يجدّد المجتمع الأميركي كل 4 سنوات دمه، ليمضي نحو الأفضل او نحو الأسوأ. ثم، من يحق له أن يحكم؟