قد يكون الـ14 من مايو 1948م بداية المُعاناة الإنسانية الرسمية للشعب الفلسطيني نتيجة للاعتراف الغربي بإقامة الدولة الإسرائيلية على الأراضي العربية في فلسطين، إلا أن المعاناة الإنسانية لأبناء الأراضي العربية في فلسطين ابتدأت مُنذُ بداية الهجرة اليهودية للأراضي الفلسطينية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي عندما كانت فلسطين ومعظم الأراضي العربية واقعة تحت احتلال الإمبراطورية التركية التي انتهت بهزيمتها وتفككها بنهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م. فإذا أضفنا لها هذه العقود المتتالية من المعاناة الإنسانية المتصلة، والمآسي الإنسانية المتصاعدة، عاماً بعد عام، وعقداً بعد عقد، نجد أننا نتحدث عن ما يزيد على المئة وخمسين عاماً متصلة، حتى خَبُرَ فيها أبناء فلسطين أقصى درجات المعاناة، وأشد أنواع المآسي، التي لم يَخبُرها شعب على امتداد التاريخ الإنساني. نعم، إنها سلسلة أعوام وعقود متصلة ومستمرة من المعاناة الإنسانية والمآسي الحقوقية التي خَبَرها وعاشها أبناء فلسطين من المهاجرين اليهود الذين كانت أهدافهم الاستيلاء على الأراضي، والاستيطان الدائم، حتى وإن كان العنف والتطرف والإرهاب هو السبيل الرئيس لذلك، أو عن طريق استدعاء الدعم الدولي الظالم كما عملت بريطانيا بإصدارها وعداً بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين (وعد بلفور في نوفمبر 1917م)، وانتهاءً بالاعتراف بإسرائيل كدولة في مايو 1948م وحصولها على الدعم والتأييد الكامل من قوى الاستعمار الغربية بدايةً، وصولاً لاعتبارها جزءاً أصيلاً من المجتمع الغربي بما تحظى به من رعاية ودعم ومساندة وتأييد غير متناهٍ، حتى وإن كان ذلك على حساب القانون الدولي وحقوق الإنسان والمبادئ والقيم الأخلاقية. فإذا أدركنا هذه الحقائق التاريخية ووضعناها أمامنا عند الحديث عن واقع اليوم، فإننا لا نستغرب أن النتيجة التي وصلنا لها ونشاهدها أماماً في وقتنا الراهن والمتمثلة في استمرارية المعاناة الإنسانية لأبناء فلسطين، واستمرارية العنف والتطرف والإرهاب الذي تمارسه إسرائيل تجاه أبناء فلسطين على امتداد الأراضي العربية في الأراضي الفلسطينية. وإذا كانت هذه الحقائق الصَّعبة قائمة بين الطرفين على جميع المستويات بما يُدلل عليه الواقع المُشاهد والمرئي والمسموع سياسياً وأمنياً وعسكرياً واجتماعياً وخدمياً وغيرها من مجالات، فإن حجم هذه المعاناة الإنسانية الواقعة على أبناء فلسطين وصلت لأطراف المجتمع الدولي، كما أن حجم التعنت والعنف والتطرف وتدني الأخلاق الذي تمارسه وتبديه إسرائيل قد وصل كذلك لأطراف المجتمع الدولي حتى اشمأز منها منبر السَّلام والإخاء والتعاون في الجمعية العامة للأمم المتحدة. نعم، قد يكون العنف والتطرف والإرهاب الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين سياسة رسمية معلنة ومعلومة للمجتمع الدولي، إلا أن وصول هذا العنف والتطرف والإرهاب وتدني الأخلاق الإسرائيلية لمنبر الجمعية العامة للأمم المتحدة أمراً ليس بالجديد ولكن يدعو للتفكر، كما أنه يؤكد رغبة إسرائيل الدائمة بممارسة العنف ورفضها الدائم للسَّلام الذي يدعو له المجتمع الدولي، وعبَّرت عنه رغبة أبناء فلسطين على أعلى المستويات الرسمية والشعبية. نعم، إن ما شهده منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في الـ10 من مايو 2024م من خطابات سياسية لمندوبَي دولة فلسطين ودولة إسرائيل يُعبر بجلاء عن توجهات كل دولة تجاه السَّلام، ومستوى أخلاق ممثل كل دولة، والعمق الثقافي والحضاري الذي يعبر عنه مندوب كل دولة، وتطلعات كل شعب للمستقبل، ومستوى الاحترام والتقدير للحاضرين في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة الذين يمثلون مختلف الثقافات والحضارات في المجتمع الدولي.

نعم، لقد شهدت قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، في جلستها المنعقدة في 10 مايو 2024م للنَّظر في الطلب، الذي قدمته دولة الإمارات العربية المتحدة –بصفتها رئيسة المجموعة العربية خلال الشهر الجاري، الذي يدعو لحصول فلسطين على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، طرحاً فلسطينياً بناءً وحكيماً يدعو للسَّلام وسرعة إنجازه لتتحقق المصالح العليا للشعوب والدول، يقابله طرحاً إسرائيلياً مُتطرفاً يدعو للعنف والحرب والكراهية وصدام الحضارات. نعم، إنها الحقيقة التي أظهرتها الخطابات السياسية للنَّوايا التي تُكنها وتُبطنها السياسات غير المُعلنة للطرفين، وهذا ما دونته وثائق الأمم المتحدة وجاء عبر موقعها الرسمي "أخبار الأمم المتحدة" في 10 مايو 2024م، تحت عنوان "الجمعية العامة تعتمد قراراً يدعم طلب عضوية فلسطين ويمنحها امتيازات إضافية"، وجاء فيه الآتي: "بأغلبية 143 صوتاً اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعم طلب فلسطين للحصول على عضوية كاملة بالأمم المتحدة، ويوصي مجلس الأمن بإعادة النظر في الطلب. كما يحدد طرقاً لإعمال حقوق وامتيازات إضافية تتعلق بمشاركة فلسطين بالأمم المتحدة."، وإذا كان ذلك هو القرار، فإن ما جاء في خطابات ممثل دولة فلسطين وممثل دولة إسرائيل من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة يعد الأكثر أهمية للتعرف على النَّوايا السياسية، والرغبات والتوجهات والتطلعات، التي يجب أن يعرفها الرأي العام الدولي عن كلا الطرفين. فإذا نظرنا لخطاب دولة فلسطين نجد الآتي: "قبل اعتماد القرار، قال السفير رياض منصور المراقب الدائم لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة، إن التصويت بنعم لصالح مشروع القرار "هو تصويت لصالح الوجود الفلسطيني، وليس ضد أي دولة، ولكنه ضد محاولات حرماننا من دولتنا". وأضاف أنه لهذا السبب تعارض الحكومة الإسرائيلية ذلك بشدة "لأنهم يعارضون استقلالنا وحل الدولتين جملة وتفصيلاً". وأكد أن التصويت لصالح مشروع القرار هو "استثمار في السلام وبالتالي تمكين قوى للسلام"، وقال كذلك: "بكلمات بسيطة، التصويت بنعم هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله. ويمكنني أن أؤكد لكم أنتم وبلادكم، أنكم لسنوات قادمة ستفخرون بوقوفكم من أجل الحرية والعدالة والسلام في هذه الساعة المظلمة"، وأكد أنهم يريدون السلام، مضيفاً أنه "لا توجد كلمة أصعب في النطق عندما يقتل عشرات الآلاف من شعبك، نحن لا نستخدمها بخفة، نحن نريد السلام"، وشدد على أن "حريتنا ليست عائقاً أمام السلام، بل هي الطريق الوحيد المؤدي إليه"، وفي مقابل هذه اللغة البناءة الداعية للسَّلام والاستقرار، والمُؤكدة على القيم والمبادئ السَّامية للقانون الدولي، يأتي خطاب مندوب دولة إسرائيل يتضمن الآتي: "جلعاد إردان الممثل الدائم لإسرائيل لدى الأمم المتحدة، يمزق ميثاق الأمم المتحدة أثناء كلمته أمام الجمعية العامة، قائلاً إن الدول التي ستصوت لصالح مشروع قرار بشأن عضوية فلسطين "تمزق ميثاق الأمم المتحدة بأيديها".

بعبارة "عار عليكم"، أنهى السفير الإسرائيلي جلعاد إردان كلمته أمام الجمعية العامة بعد تمزيق صفحات من مـيثاق الأمم المتحدة، وقال قبل التصويت على مشروع القرار إنه يريد أن يتذكر العالم أجمع هذا "العمل غير الأخلاقي"، مضيفاً أن الدول الأعضاء "تمزق ميثاق الأمم المتحدة بأيديها"، وقال إردان: "لقد اختارت هذه الهيئة الوقحة مكافأة النازيين المعاصرين بالحقوق والامتيازات"، مضيفاً أن الجمعية العامة فتحت الأمم المتحدة أمام "الجهاديين الذين يرتكبون الإبادة الجماعية والملتزمين بإقامة دولة إسلامية في جميع أنحاء إسرائيل والمنطقة والذين يقتلون كل رجل وامرأة وطفل يهودي، أشعر بالاشمئزاز"، وقال: إن الجمعية العامة ترتكب "ذنباً لا يغتفر.. وتبصق على القيم ذاتها التي صيغت لتلتزم بها هذه المنظمة"، وأضاف أن الجمعية تنتهك الميثاق بتجاوزها مجلس الأمن "والاستهزاء بمعنى محبة السلام"، واصفاً الفلسطينيين بـ"محبي الإرهاب"، وقال: "سيكون هذا اليوم عاراً على الأمم المتحدة، فالمنظمة التي تأسست في أعقاب القتل المنهجي لستة ملايين يهودي لا تهتم بميثاقها التأسيسي، وتدفع بنظام إبادة جماعية آخر يهدد وجود الشعب اليهودي".

وفي الختام من الأهمية القول إن مِنبر الجمعية العامة للأمم المتحدة شهد للفلسطينيين رغبتهم بالسَّلام والاستقرار واحترامهم لمختلف الثقافات والحضارات، وشهد للإسرائيليين دفعهم نحو العُنف والتطرف والإرهاب والحرب وصدام الحضارات، لتتأكد وتظهر بذلك حقيقة النيات السياسية لِكِلاَ الطَّرفين تِجاه السَّلام والأمن والاستقرار، وسعيها للبِناء والتنمية والازدهار. نعم، لقد أثبت الفلسطينيون أمام العالم أجمع دفعهم نحو الحلول السلمية بما يتفق وقرارات القانون الدولي ومبادرة السَّلام العربية، وأثبت الإسرائيليون أمام العالم أجمع دفعهم نحو التدمير والخراب والقتل والحرب وسفك الدماء بما يتفق والممارسات الاستعمارية والعنصرية والمنحرفة فكرياً وسلوكياً كالنازية والفاشية والبلشفية.