يتوجّه ملايين البريطانيين اليوم إلى مراكز الاقتراع ليدلوا بأصواتهم، في انتخابات ستمثل نقطة تحوّل تاريخية على أكثر من صعيد، بالنسبة إلى بريطانيا وأوروبا، كما تؤكّد استطلاعات الرأي منذ نحو سنتين. ستنتهي مرحلة باتت هرمة في عيون الكثيرين، وتبدأ أخرى ملامحها غائمة لم تتبلور بعد. ومتوقعٌ أن يتفاقم العنف السياسي ويتعزز دور وسائل التواصل الاجتماعي في صناعة الرأي العام، ويتمدّد اليمين المتطرّف بعلاماته الفارقة: معاداة الإسلام والسامية وكراهية الأجانب. في المقابل، تتبنّى القوى المناوئة لهذه التيارات، كجماعات الفعل المباشر البيئية، خيارات أكثر جذرية وربما أقل تأثيراً على المدى الطويل.

سيخرج المحافظون من السلطة بعد 14 عاماً، تاركين وراءهم الخراب الذي خلقوا بعضه، مثل البريكست، وفشلوا في معالجة بعضه الآخر كأزمة تكلفة المعيشة، ليتفرّغوا لحروبهم الأهلية التي يُخشى أن تجعل أعرق الأحزاب البريطانية أحزاباً عدة يغلب عليها التطرّف. وسيحلّ محلهم حزب العمال، العائد بخطوات متردّدة وسياسات لا تذهب بعيداً بما يكفي لتحقيق التغيير الذي يتخذه شعاراً للمرحلة. وقد خاض هو الآخر معاركه الداخلية منذ تسلّم كير ستارمر زعامته، و"طهّره" من اليساريين، كما جنح به أكثر فأكثر نحو الوسط، من دون أن ينزع عنه ورقة التوت الاشتراكية.

ثمة محدّدات مهمّة مجهولة يصعب التكهن بها سلفاً، منها مدى تأثير الاستياء من موقفي الحزبين الرئيسين حيال حرب الإبادة في غزة، وكم سيساعد شعوبيين، مثل النائب جورج غالاواي، على تحقيق نجاحات سهلة على حساب المسلمين البريطانيين. وهناك العديد من الناخبين الذين لم يقرّروا بعد من يختارون، خصوصاً من الشباب والنساء وأبناء الأقليات العرقية والدينية، وليس معروفاً كم ستكون نسبة المشاركة في الانتخابات في ضوء العزوف المتزايد في السنوات الأخيرة. لكن المرجح أنه سيكون هناك ما يكفي ويزيد من الأصوات في سلّة العمال لتصدّر النتائج.

يمكن الناخب الذي بلغ الثامنة عشرة وأُدرج اسمه في السجل البرلماني، أن يصوّت عبر الإنترنت، من داخل البلاد أو من المغتربات التي يعيش فيها ما يزيد على 150 مليون مواطن بريطاني، يمثلون ضعفي سكان المملكة المتحدة. وبوسعه أن يُدلي بصوته في أحد مراكز الاقتراع بين السابعة صباحاً والعاشرة ليلاً، بعد إبراز وثيقة تحمل صورته لإثبات شخصيته، وهو شرط جديد يُطبّق للمرّة الأولى.

وستتضح كيفية توزيع مقاعد مجلس العموم الجديد (650 مقعداً) بين ثمانية أحزاب وربما بعض المستقلين، شيئاً فشيئاً بحلول فجر اليوم التالي. ويتبين عندها إذا استطاع أحد الأحزاب الفوز بالأغلبية المطلقة (326 مقعداً) ليشكّل الحكومة بمفرده. وإلّا سيكون البرلمان "معلّقاً"، يؤلف زعيم الحزب الذي يشغل أكبر عدد من مقاعده حكومة أقلية تجبره على إجراء تحالفات موقتة أو دائمة مع أحزاب أخرى.

والواقع أن حزب المحافظين وحزب الأحرار، الذي صار اسمه "الديمقراطيون الأحرار"، تبادلا الحكم أو تشاركا فيه، خلال القرن الثامن، قبل أن يدخل حزب العمال على خط السلطة في عام 1924. ومنذئذ، يتداول الحكم مع حزب المحافظين، إذ تعاقب على رئاسة الحكومة 5 عماليين و13 محافظاً في القرن الماضي. واللافت أن عدد رؤساء الحكومة من المحافظين في الـ 14 سنة الأخيرة يعادل عدد العماليين منهم في القرن التاسع عشر كله!

يدلّ هذا إلى تشرذم الحزب الحاكم الذي شاخ وراح يتداعى لأسباب أهمها البريكست الكارثي الذي يتنكر له حالياً حتى بعض صنّاعه، والفضائح التي كان بطلها بوريس جونسون، رئيس الوزراء الأسبق، وليز تراس التي خلفته وكادت تدمّر اقتصاد البلاد في 49 يوماً. ويتردّد أن الحزب الحاكم سيفقد أكثر من ثلثي مقاعده البرلمانية الـ 345، لا بل تعطيه بعض استطلاعات الرأي الأخيرة 64 مقعداً فقط! وقد غادر سلفاً 65 نائباً سفينته الغارقة، بينهم مخضرمون ووزراء سابقون قرّروا عدم الترشح.

أما العمال، فثمة توقعات يطغى عليها التفاؤل بأن يضاعف عدد مقاعده الـ 206، ليحكم بأغلبية ساحقة (318) أين منها تلك التي حققها توني بلير (179) بفوزه الاستثنائي في انتخابات عام 1997، وفتحت الباب على 13 سنة من حكم حزبه. إلّا أن دخول 10 داونينغ ستريت في 4 تموز (يوليو) ليس كل شيء، فاليوم التالي أكثر أهمية. سيجد ستارمر، رئيس الوزراء المقبل، كومة من الملفات التي لم يذكر بيانه الانتخابي بشكل صريح موقفه منها أو تصوره لسُبل التعاطي معها.

منتظرٌ أن يستعيد العشرات من مقاعده التقليدية التي جرّده منها الحزب الوطني الاسكتلندي، الذي يتراجع هو الآخر بوتيرة متسارعة كالمحافظين. ولا يُستبعد أن تعود معظم مقاعد ما يسمّى "الجدار الأحمر" التي خسرها في انتخابات عام 2019 إليه.

لكن، يُخشى أن يقع بعضها في قبضة حزب "ريفورم يوكاي" (أصلحوا المملكة المتحدة) الشعبوي الجديد الذي يستغل قضية الهجرة، وإن كان دفاع زعيمه الكاريزمي نايجل فاراج عن الغزو الروسي لأوكرانيا وافتضاح أمر مرشحيه النازيين الجدد قد كبحا موجة التأييد التي حظي بها أول الأمر.

الحزب الثالث، الديمقراطيون الأحرار، مرشحٌ لتحقيق مكاسب مثيرة في مناطق الطبقة المتوسطة، على حساب المحافظين. ويُعتقد أنه سيكتسح مقاعد "الجدار الأزرق"، معاقل الحزب الحاكم التاريخية. لكنه، كالخضر، لن يصنع معجزة في هذه الانتخابات، بل ستكون حصيلته متواضعة كالعادة. ومهمٌ معاينة النتائج التي يحققها "شين فين"، وما إذا كانت كافية للتعويض عن فشله في انتخابات جمهورية إيرلندا البلدية الأخيرة.

يكتنف الغموض مستقبل بريطانيا الذي سيصنعه حزب العمال بدءاً من يوم الجمعة المقبل. وتتركّز التساؤلات على احتمالات نجاحه بتعزيز تعافي الاقتصاد بعد هبوط نسبة التضخم وتحفيز نموه، ومعالجة أزمة الهجرة وتداعيات البريكست وحل مشاكل التعليم والصحة والبيئة... سجله لا يوحي بهذا، لكن حسبه أن يحاول باجتهاد.