مدوّناتُ القوميين العرب حافلةٌ بكلامٍ مديدٍ عن العلاقة بين العروبة والاسلام. ولأن عروبة هؤلاء لا تطابق فهمَ النصوص الاسلامية (قرآناً وسنّةً) لها، فقد اضطروا إلى حشد مقولات هي محض رطانات شعرية لا تفضي إلى معنى محدّد من قبيل قول عفلق (كان محمد كلّ العرب فليكن كلّ العرب اليوم محمداً!). هذه العبارة الهذرُ سيتلقفها مطاع صفدي بعد نصف قرن ويعيدها بصياغة جديدة في مقالٍ له (كان مولد الرسول إمكانية لأن يكون شعبه رسولاً).
العبارتان ـ ككلّ مقولات القوميين ـ تطلقان فضاءً استيهامياً ولا تفترضان تفكيراً بهما لأنهما ليستا نتاج تفكير بل حاصل الاستيهام ذاته، منه وإليه. ومؤداهما ـ بعد تجاوز "الشعرية" في قول "محمد كلّ العرب" وهي ذات الشعرية في قول أدونيس "الأمة النبيّة" أو قول خزعل الماجدي "كلّ عربيّ نبيّ!" ـ أن النظرية العروبيّة تروم استثمار لحظة الوحي "أو ولادة الرسول عند صفدي" بأي ثمنٍ ومهما كلّف الأمر، لأن هذه اللحظة تنفع باباً يصلُ البيت العروبيّ الذي أُسِّسَ حديثاً مع نشوء النازيّة والصهيونيّة وبعونٍ منهما، بالبيت الإسلاميّ الذي هو طود تأريخيّ كان نتاجَ تفاعل نظريات فكريّة وسياسيّة وعقائدية شاركتْ فيها شتى المذاهب والأعراق والطوائف المتناحرة منذ لحظة الوحي (أو الولادة) وإلى يوم الناس هذا.

كلتا العبارتين تبغي تعميم النبوّة وإطلاقها على المجموع (كلّ العرب، الشعب). وهو فعل يتواءم وخاصية الاعتياش التي وسمت "النظرية" القومية، إضافة إلى ما في ذلك من انتقاء وتلفيق ميّزا هذه النظرية طوال قرن كاملٍ هو كلّ تأريخها.
والمجموع المعبّر عنه في النصوص الاسلامية بلفظ الأمة (وهو لفظ سيعتاش عليه القوميون بعد تحريف دلالته) يفترض إجماعاً. إذْ يُفهم من الآي القرآنيّ ان الأمة لا تُراد بوصفها جمعاً من الناس ذوي العرق الواحد (كما لدى العروبيين) بل تستدعي نحواً من العقائد المشتركة وتستلزم فكراً موحّداً هو الذي يميّز أمةً ما بل ويجعلها خير الأمم (كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر). وهذه الآية بالذات ـ وهي دالّة على اشتراط المجموع لإجماعٍ ـ سيتلقفها العنصريون العرب (منذ انقلاب الرشيد على البرامكة وأمره الكتّاب بتكريس العنصر العربيّ سيّداً للقوميات الأخرى وصولاً إلى انقلاب الرشيد الثاني أعني رشيد عالي الكيلانيّ) بوصفها لقيةً يورودنها في كل مناسبة باعتبارها دليل إثباتٍ على "خيريّة" العرق العربي وأفضليته، الأمر الذي استوجب ظهور فرقة فكرية أرادت تصحيح هذا الخطأ المخزي، سُميّت هذه الفرقة بالشعوبية لاستدلالهم المتكرّر بالآية القرآنية (... وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، وقد حاول عتاة العنصريين العرب منذ العصر العباسيّ وصولاً إلى أحفادهم العروبيين اليوم تشويه هذه الحركة ولصق التُهم المغرضة بأصحابها، ونجحوا في ذلك إلى حدّ بعيد.
صفوة القول ان الجمع المسمّى أمةً في القرآن يلتئم تحت إجماعٍ ما، ولا يُفهم بدونه.
غير ان هذا الإجماع أصبح ـ حين ابتعدنا زمناً عن لحظة الوحي ـ محضَ مفهوم لا مصداق له. ومع ان كتب الأصول جعلته ثالث مصادر التشريع، إلا أنه ظلّ غير فاعلٍ بـ"إجماع" العلماء، الأمر الذي جعل بعض المسلمين يعدّونه أمراً خاصاً بعصر الرسول فقط دون سائر عصور الإسلام اللاحقة، كما عبّر عن ذلك الفقيه الراحل "ابن باز" بقوله: (وينبغي أن يعلم أن الإجماع القطعي المذكور : هو إجماع السلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم ؛ لأن بعدهم كثر الاختلاف وانتشر في الأمة، كما نبّه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه "العقيدة الواسطية" ، وغيره من أهل العلم). هذا عن الفهم السنّي للإجماع.

أما في المذهب الشيعي فان الأمر أوضح. إذ لا أهمية للإجماع عندهم سوى كشفه عن رأي المعصوم، باعتبار ان تحقق الإجماع ـ إذا تمّ ـ يدخل فيه المعصوم ضرورةً ، ولهذا فان الإجماع هنا لا يُراد لذاته، بل باعتباره طريقاً موصلاً إلى السنّة أي قول المعصوم وفعله وتقريره. قال آية الله الفاضل اللنكراني: (إنّ حجيّة الإجماع إنّما هي من جهة كشفه عن رأي المعصوم "عليه السلام" ومن المعلوم أنّ مع ذلك الاختلاف لا يكشف عن رأي المعصوم حتّى على نحو الموجبة الجزئيّة، مع أنّ تحقّق الموجبة الجزئيّة لا يجدي فيما هو المقصود من الاستدلال بالقاعدة في الموارد المختلفة).

وإذاً فالإجماع المطلوب بوصفه مصدرَ تشريعٍ أساسياً بعد الكتاب والسنّة لا وجودَ له في الحقيقة. وهذه القداسةُ التي تمّ إضفاؤها عليه، آيلةٌ في آخر الأمر إلى بيان قداسةٍ أخرى يُراد للإجماع الكشف عنها (قداسة زمن الرسول والصحابة عند السنة، ورأي الإمام الغائب عند الشيعة).
إلا ان هذا الإجماع الغائب مرفوعٌ ابداً كلافتةٍ في كتب الأصول رغم القول بامتناعه، ومطلوبٌ رغم الجزم بتعذّر وقوعه، وما ذلك إلا لأنه ـ حتى لو كان محض افتراض وإمكان ـ ما به نظامُ الجمع، هو المذكّرُ أن هدفاً وراء اجتماع هؤلاء يشدّهم ويقوم مقام الرادم للهوّة التي تفصل بين كلٍّ من أفراد الحشد، إذ الجمع الفاقد لإمكانية إجماعه يغدو تجمعاً يحيل إلى التفرّق والتشرذم.
تأسيساً على ذلك يكونُ شرط نظام المجموع مبتنياً على ممتَنِع، ومن ثمّ لا سبيل إلى تحققه فعلاً، ولهذا لجأت الحكومات المسمّاة إسلامية إلى العسف والشدّة والعنف سواءً في أنظمتها المكتوبة (كما في العهد العُمَريّ الناطق عن بداوة فائضة) أو في ممارساتها الفعليّة عبر تأريخ المسلمين المليء بالدم والرؤوس المتطايرة منذ رأس الحسين وإلى رأس آخر عراقيّ ذُبح بسيف الشيخ الزرقاويّ أمس. هذا لأن الإجماع ضدٌّ للمجتمع، فهو يتطلبُ صحةَ عقيدةٍ وتفتيشاً محموماً عن الضمير. ومع انه لم ولن يتحقق إلا ان إرادته وطلبه على الدوام تركا هذا الأثر العربيّ الخالد: تخريب المجتمع وتحطيم الوطن بوصفه الجامعَ لشركاء على الأرض.
الإجماع يستدعي تقسيم الناس إلى مسلمين وكفار، ثم الكفار إلى أهل كتاب وسواهم، وأهل الكتاب إلى محاربيين وذميين. وبعد هذا كله سيتم تقسيم المسلمين أنفسهم إلى أهل السنة والجماعة وآخرين ضالين. والشواهد التأريخية تثبت لنا ان الاسلام ما ان تقوى شوكته أو تنتابه (صحوة) حتى يبدأ مسيل الدم بناءً على هذا التقسيم الآنف الذكر. خذوا مثلاً قيادة ابن تيمية لحرب العلويين ورافضة الجبل، وتهديده المتصوفة بالسيف، قتل الوهابيين لشيعة المنطقة الشرقية (رسالة ابن سعود إلى الوالي العثماني تطمئنه اننا لا نريد التعرض للعثمانيين بل نريد قتل الأرفاض الأنجاس!)، ثم غاراتهم المتكررة على كربلاء والنجف، واليوم يحدث الشيء ذاته في العراق، حيث حرب أهلية من طرف واحدٍ تدور رحاها هناك.
ففي كلّ (صحوة) إسلامية تُثنى فيها الوسادةُ للفقيه فإنه يطلِب أول ما يطلب إجماعاً لا مجتمعاً، تماماً كالإجماع على الزيّ (في العهد العمريّ أمرٌ لغير المسلمين بلبس زيّ موحد يخصّهم وهو ما نفذتْه عصابات طالبان بدقة متناهية في أفغانستان). لم يستطع الاسلام تحويل الجمعِ إلى مجتمع أبداً، لأنه بتقديسه الإجماع بَذَرَ في صُلب هذه الجموع بذورَ التشتت فاضطر إلى تحكيم السيف فيما كانوا فيه يختلفون.
لا وطن في الاسلام ، واذا ما استثنينا الحديث اليتيم والضعيف السند!: (حبُّ الوطن من الايمان)، فإنك لا تجد ما يشير إلى رابطةٍ تجمع الناس سوى لفظي الأمة والجمع الدالّين على الوحدة لا على الشراكة. قال الرسول: (من أراد أن يفرّق أمرَ هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من يكون).السيف إذاً كان طريقنا إلى إبقاء الأمة (جميعاً) وتحقيق إجماعٍ لم يكنْ ولن يأتي أبداً.

هذه العقلية البدويّة (والبداوة ضدٌّ للأوطان بطبعها) التي لم تعرف مفهوماً للوطن ولا للمواطنة ستكون العدّة الأصولية للقوميين العرب في القرن العشرين، فليس من وطن حقيقيّ للعروبيّ بل أمة واحدة لا أمل في إيجادها (حالها حال الإجماع الاسلاميّ)، ولكنها ـ مع كونها حديثَ خرافةٍ ـ تركتْ آثارها الكارثية متمثلة في تخريب أوطانٍ ومجتمعات لا ذنبَ لها سوى انها سكانها ناطقون باللغة العربيّة. فليس تحطيم الجمهورية العراقية الفتيّة عام 1963 إثر مؤامرات عبد الناصر ومرتزقته العراقيين، ولا تخريب لبنان بقوّة هذا الوهم الوحدويّ العروبيّ، ولا إلغاء دولة الكويت من الوجود ، إلا بضعة فصولٍ من كتاب أسود لا تجد فيه لفظ وطنٍ أبداً إلا (الوطن العربيّ الكبير) الذي يراد أن تُحرَق الأوطان الحقيقية قرابينَ لمقدمه المقدّس المستحيل. والسيف كان حاضراً بوصفه أداة توحيد أيضاً.
لم يكن عمل السيف العروبيّ فاعلاً إلا داخل البيت الواحد ولغرض التوحيد. ففي حروبهم مع الآخرين كان عار الهزيمة حليفاً للعرب دائماً، أما في حروب التصفية الموصلة للأمة الواحدة فقد كان هذا السيف ماضياً: جنوب العراق وأقليم كردستان وحمص وحماه وأخواتها أمثلة جليّة على ذلك.
وهكذا فنحن لم نستطعْ تكوينَ مجتمعٍ لأننا طلبنا إجماعاً، ولم نستطعْ تكوينَ وطنٍ لأننا طلبنا أمة. وبين ذلك وتلك يقف الفرد الناطق بالعربية حائراً ليس أمامه اليومَ إلا إزاحة هذا الركام من قمامة القرون للبدء من جديد، هنا والآن. يجد لزاماً عليه أن يتساءل أولاً عما يجمعه والآخرين الذين يشاركونه السكنى على الأرض: أهي العقيدة التي تتطلب إجماعاً كما في مدونات الاسلاميين والقوميين، العقيدة "العربية أو الاسلامية" التي أفضتْ إلى هذا الفرز البربريّ للناس طوال تأريخنا؟ أم هي نظمُ المواطنة الحديثة التي تستدعي إبرامَ عقدٍ بين أفراد وطنٍ حقيقيّ وليس استيهامَ أمةٍ هي حِداءٌ متصلٌ في صحراء مترامية الأطراف.

http://aqwas.com