الأرجح أن فرنسا الشيراكية شعرت بانعكاسات اهمالها لقضايا الاصلاح السياسي في العالم العربي فبدأت تعدل تعاطيها مع الملف وتسعى لكسب ود النخب المطالبة بالتغيير، لكن مع الحرص الشديد على عدم إيذاء الحكومات. ويمكن القول ان المؤتمر الاقليمي الذي نظمته فرنسا مع هيئات قضائية قطرية في الدوحة أخيراً دل على بدء الاهتمام بقضايا الديموقراطية وحقوق الانسان في العالم العربي والاسلامي بعدما تركت باريس الملعب فسيحاً للأميركيين ليشغلوا الحكام والنخب على السواء بالأجندة التي طرحوها منذ مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط وصولاً الى مشروع الشرق الأوسط الكبير. وجديد مؤتمر الدوحة الذي افتتحه أمير قطر وحضره كل من وزير العدل ورئيس المجلس الدستوري الفرنسيين كونه لم يرتد طابعاً ثنائياً وانما شارك في أعماله ممثلون من خمسة عشر بلداً ينتمون الى المنطقة في خطوة تعكس تقليد المؤتمرات الاقليمية التي بادرت واشنطن الى الدعوة لها منذ المؤتمرالاقتصادي الشهير في الدار البيضاء السنة 1995. وجديده أيضاً انه تناول موضوعاً حساساً يتعلق باستقلال القضاء وهو السلطة الرئيسية القادرة على مراقبة السلطة التنفيذية وتقييد حكمها المطلق.

وتتخذ المنافسة بعداً آخر مع اتجاه أميركا للإعداد لمنتدى المستقبل في نسخته الأولى والتي سعت لأن تكون في بلد عربي أو اسلامي وكان لها ذلك، على رغم التحفظات التي أبدتها الحكومات وهيئات المجتمع المدني، كل من منطلقاته الخاصة، على مشروع الشرق الأوسط الكبير. فمكان المنتدى هو المغرب الذي يعتبر الحليف الأقرب لفرنسا الشيراكية ليس فقط في شمال افريقيا وانما في المنطقة بأسرها لأسباب تاريخية وسياسية معروفة. ويمكن التكهن بأن موقف الاشتراكيين الفرنسيين لو لم يزاحوا من الحكم كان سيختلف عن موقف شيراك من الأجندة الأميركية المركزة على موضوع الاصلاح.

ما من شك بأن مكانة فرنسا الدولية ما انفكت تتراجع في الأقل خلال العقدين الأخيرين ما جعل صوتها خافتاً ان كان يمينياً أو يسارياً. لكن ميزة الاشتراكيين كونهم وضعوا قضية الديموقراطية على أجندة علاقاتهم مع البلدان العربية وبالأخص مع شمال افريقيا. وهذا لا يغفر لهم طبعاً سياستهم الممالئة لاسرائيل والتي أعطى مثالاً وقحاً عنها رئيس الوزراء السابق ليونال جوسبان. أما شيراك فلم يترك فرصة إلا وأكد استهانته بملف الحريات والاصلاح السياسي في العالم العربي موحياً بأن الأهم هو تأمين الطعام للأفواه الجائعة وكأن الديموقراطية لم تعد في هذا العصر ضرورة حيوية، لا بل شرطاً لكرامة المواطن.

ومن هذه الزاوية يبدو الاهتمام الطارئ بتطوير السلطة القضائية مقدمة لطرح فرنسي جديد وإن في نبرة خفرة لمسألة الاصلاح طمعاً بشد قسم من النخب العربية اليها بعدما استهواها المشروع الأميركي على رغم سخطها على سياسة واشنطن في العراق وفلسطين. وليس غريباً ان تتنافس باريس وواشنطن على مغازلة النخب العربية وكسب ودها، لكن العجيب هو موقف الحكومات العربية التي رفعت الشعار المخاتل القائل ان الاصلاح لا يأتي سوى من الداخل فيما هي تهيئ جميع الأسباب كي يأتي من الخارج بتجميد القوى الحية وإجهاض نواة المجتمع المدني المحلي. وطالما ظل المناخ الداخلي مختنقاً بتكريس القوانين الاستثنائية واللجوء لحيل التمديد والتجديد والمبايعة واعتماد تعددية صورية فإن الشعارات الآتية من الخارج لن تستهوي النخب وحسب وانما سائر الناس الذين سيبحثون عن خشبة للخلاص من وضعهم وان جاءت من الشيطان.