رغم كثرة الانتكاسات والفضائح‚ ما زال توني بلير يقاتل في لندن‚ مثلما يقاتل فلاديمير بوتين في موسكو‚ لإنجاح جورج بوش‚ وإذا كان الرئيس الروسي قد ترجم دعمه لبوش على شكل تحذير علني من أن خسارة الرئيس الأميركي انتخابات نوفمبر أمام جون كيري تعني انتشار الإرهاب في العالم‚ فقد فضل بلير الذي لم يعد يملك كلمات تصلح للتعبير عن مدى تحالفه مع بوش‚ أن يدفع ثمن ولائه‚ دما‚ بقذفه كتيبة بريطانية إلى عرين المقاومة السنية في بغداد‚

قد يبدو قرار بلير نقل كتيبة من «600» جندي يرابطون في البصرة‚ إلى بغداد المتفجرة بالمقاومة والإرهاب والخطف‚ خبرا عاديا‚ أو مجرد تنقل عسكري طبيعي للقوات متعددة الجنسيات‚ غير أن مجموعة شياطين تكمن في هذا الخبر «العادي» الذي رأى الكاتب الصحفي عادل درويش أنه وحد صفوف المعارضين لسياسة بلير‚ من خلال اتهامه بالذهاب بعيدا في تورطه في السياسات الأميركية بطريقة تزيد عبء الدم والمال على البريطانيين‚

وفيما يقود الغوص في تفاصيل هذا القرار إلى الاستنتاج بأن بلير ضحى بحياة وسلامة مواطنين بريطانيين من أجل كسب نقاط سياسية لصالح الرئيس الأميركي في معركة الثاني من نوفمبر أمام جون كيري‚ فإن السؤال الذي يقلق البريطانيين‚ كما يقول درويش‚ يدور حول حاجة الأميركيين الذين نشروا «140» ألف جندي في العراق إلى «600» جندي بريطاني معظمهم من المهندسين والأطباء والعاملين في مهمات المساعدة‚

وإذا كان الجواب هو أن الدعم المعنوي الذي تنطوي عليه هذه الخطوة قد يشيع جوا من التعاطف الانتخابي مع جورج بوش الذي وصل السباق بينه وبين كيري إلى نقطة شديدة التقارب يصعب معها التنبؤ بمن سيفوز‚ فلماذا وقع الاختيارعلى كتيبة «الحرس الأسود» السكوتلندية مائة بالمائة لإرسالها إلى المثلث السني؟ وهل يندرج هذا الخيار في إطار «تقليد» قديم يضع الفيالق الانجليزية في الصفوف الخلفية‚ ويدفع بالاستراليين والمصريين والهنود وكذلك السكوتلنديين والأيرلنديين إلى الصفوف الأمامية؟

هذه الورطة التي أقدم عليها توني بلير يجب أن تكفي وحدها‚ إذا تغاضينا عن أخطاء كثيرة ارتكبها‚ للإطاحة به على الفور‚ فهو يلعب بالدم والعِرْق ويخاطر بحياة السكوتلنديين ــ وليس الإنجليز ــ لإرضاء جورج بوش‚

المسألة أوضح من الشمس‚ ومع ذلك تتوارى الشمس أمام ألاعيب بلير وأضاليله وأفكاره الشيطانية الهادفة إلى تمكين بوش من الفوز مهما بلغت التكاليف‚

أما الرأي القائل بأن سبب قبول بلير إرسال قوات بريطانية إلى مناطق حساسة في العاصمة العراقية يرابط فيها جنود أميركيون مكروهون للغاية‚ يمثل مرحلة من استراتيجية بعيدة المدى للخروج مبكرا من العراق‚ فهو ذر للرماد في العيون‚ ومحاولة للتغطية على حقيقة مهمة وهي أن حاجة الولايات المتحدة إلى القوات تتجاوز الأهمية الرمزية والمعنوية‚ إلى الحاجة الفعلية‚ ذلك أن التقديرات تفيد بضرورة وجود «500» ألف جندي للسيطرة على العراق‚ أي مضاعفة العدد المتوافر حاليا‚بثلاثة أضعاف‚ والمتابع للتطورات يعلم أن واشنطن التي تعاني صعوبات كبيرة في تجنيد الشباب والشابات للخدمة العسكرية‚ تفكر بالانتقال إلى التجنيد الإجباري‚

الفرق بين بوش وكيري في قضية الوجود العسكري في العراق‚ هو أن بوش سيبدأ فور فوزه ــ إذا فاز ــ باتخاذ الإجراءات اللازمة لإرسال المزيد من القوات وإقناع الدول الأخرى بالإسهام في ذلك‚ أما كيري فسيبدأ فور فوزه ــ إذا فاز هو الآخر ــ بتطبيق استراتيجية الخروج من العراق التي لن تتضمن بالتأكيد إرسال المزيد من القوات‚

وأخيرا فإن بلير قد انتهك بإرساله الكتيبة السكوتلندية إلى بغداد‚ عرفا يقضي برفض أي قوة بريطانية العمل تحت إمرة ضابط أميركي ــ يذكّرنا درويش ــ اللهم إلا إذا كان رئيس الوزراء يعتبر السكوتلنديين وكذلك الإيرلنديين والولشيين‚ مواطنين من الدرجة الثانية‚ وإنْ كانوا يحملون الجواز البريطاني!