القاهرة من فتوح سالمان: رغم ان عددهم لا يتجاوز عشرة الاف على الاكثر الا ان الارمن في مصر جالية مترابطة جدا لها لغتها الخاصة التي لا تستخدم غيرها «فيما بينها» وفي نواديها وكنائسها وصحفها التي تبقي علي علاقتها بالوطن الام ارمينيا. وبرغم تماسكهم الكبير الا ان التمييز بين المصري الارمني وغير الارمني مستحيل ولن تدركه الا عندما يتحدث امامك اثنان منهم باللغة الارمينية أو يحدثك أحدهم بكل فخر عن ارمينيا والحنين اليها. ولن تجد بين الارمن المصريين من لا يحفظ تاريخ ارمينيا عن ظهر قلب، والفضل يرجع بالطبع لحرصهم الشديد علي تعليم لغتهم لابنائهم وتدريس تاريخ الوطن الام بل وارسالهم في رحلات لجبال ارمينيا وسهولها الفسيحة.
تعود جذور الارمن في مصر الي اوائل القرن التاسع عشر عندما دشن محمد علي باشا دولته الناهضة في مصر واستعان بهم في المسائل الاقتصادية فقد كانوا موضع ثقته وتدرجوا في المناصب حتي كان منهم رئيس لوزراء مصر هو نوبار باشا في زمن الخديوي اسماعيل حفيد محمد علي باشا, فيما بعد لمعت اسماء اخري مثل الفنانات نيللي ولبلبة وميمي جمال ورسام الكاريكاتير صاروخان.
لكن بشكل عام ظلت اعدادهم محدودة طوال عقود القرن التاسع حتي عام 1905 عندما اندلعت الاحداث الاكثر دموية في تاريخ ارمينيا وذبح الاتراك من شعبها نحو مليون ونصف المليون فاضطر عدد كبير منهم للهجرة خارج الوطن, عندها توافد عشرات الالاف منهم الي مصر واستمرت الزيادة حتي بلغ عددهم مائة الف ارمني اواخر ستينات القرن الماضي, لكن تغير الحقب السياسية وتغير الاجواء في القاهرة دفع نسبة كبيرة منهم للهجرة مرة ثانية حتى انحصر العدد عند عشرة الاف فقط بنهاية القرن العشرين. وعلي الرغم من عددهم القليل الا ان ذلك لم يعن ابدا ذوبان هويتهم ففي اي مكان يذهب اليه الارمن حول العالم يحرصون قبل اي شيء علي ثلاثة اشياء اساسية هي: الكنيسة والنادي والمدرسة.
* كالوسديان
* اخيرا احتفلت اول مدارسهم في القاهرة «كالوسديان» بمضي قرن ونصف على تأسيسها, وكالوسديان ليست مجرد مدرسة عريقة تأسست عام 1854 لكنها تاريخ حي ونابض لشعب يرفض التخلي عن هويته ويفخر بجذوره في أي مكان يذهب اليه, تشعر بذلك بمجرد ان تدخل بهو المدرسة الذي تتصدره صورة ضخمة تضم الهيئة التدريسية لكالوسديان وطلاب المدرسة عام 1972 ومكتوب تحت الصورة تعليق يقول «برغم المذابح والمجازر التي تعرض لها الشعب الارمني عبر التاريخ الا انه قادر باستمرار على المضي قدما وهذه الصورة دليل حي على امكانيات الشعب الارمني».
نعود لكالوسديان التي يبدأ تاريخها في سبتمبر من عام 1854 عندما قرر جارابيد اغا كالوسديان, وكان رجلا موسرا في منتصف القرن التاسع عشر, بعد ان رأى ان الكتاتيب الارمنية المنزلية لم تعد تكفي ابناء الارمن، التبرع بأرض يملكها بدرب الجنينة بالعتبة لبناء مدرسة يقتصر دخولها على ابناء الارمن. والحقيقة ان ذلك كان وما زال شرطا ضمنيا حيث يشترط لالتحاق اي تلميذ بالمدرسة ان يجيد احد ابويه اللغة الارمنية.
مدرسة كالوسديان لم تحمل اسمه في البداية بل كان اسمها «خورنيان», وعندما توفي حملت اسمه كنوع من التكريم له والاعتراف بفضله. وعندما ضاقت المدرسة على التلاميذ نقلت الي موقعها الحالي في منطقة بولاق على النيل عام 1907 علي ارض فسيحة تبرع بها «بوغوص نوبار باشا» ابن نوبار باشا رئيس وزراء مصر. لكن يبدو ان المحن هي قدر كل ما هو ارمني فعندما ارادت الحكومة المصرية بناء كوبري في اكتوبر عام 1978 هدمت نصف مساحة المدرسة وهدمت مبناها التعليمي بالكامل وانتقلت الفصول لمبني صغير من طابقين كان ملحقا بالمدرسة, والواقع ان هدم نصف المباني لم يكن يعني ان الفصول ستعاني من كثافة او شيء من هذا القبيل فعدد التلاميذ في المراحل الدراسية المختلفة من رياض الاطفال الي الصف الثالث الثانوي قد لا يزيد عن عشرة تلاميذ وربما ينخفض لاربعة تلاميذ في الفصل الواحد كما يؤكد الكتاب الذي صدر عن المدرسة جامعا لاسماء خريجي المدرسة منذ انشائها. ففي الستينات كان العدد يزيد عن عشرين طالبا وطالبة في الفصل الواحد في حين ان دفعة العام الماضي كانت من اربع طلاب فقط, ولدين وبنتين, بالطبع فان انخفاض كثافة الفصول بها يجعلها مدرسة متميزة جدا عندما نعلم ان كثافة التلاميذ في الفصل الواحد بالمدارس المصرية العادية تصل الي ثمانين طالبا. لكن هذه ليست الميزة الوحيدة فلو علمنا أن مصروفاتها لا تتجاوز 500 جنيه مصري فقط لا غير سنويا للطلاب في المرحلة الثانوية وتنخفض لمائتي جنيه في المرحلة الابتدائية لادركنا تميزها الحقيقي عن أي مدرسة اخري, خاصة ان خريجها يلتحق بالجامعة متقنا لاربع لغات قراءة وكتابة هي العربية والانجليزية والفرنسية والارمنية.
* صحف ونواد
* كالوسديان تتلقي دعما مباشرا من الكنيسة الارمنية في مصر التي تتولاها بالرعاية وكذلك النوادي الاجتماعية التي يصل عددها الي سبع نواد كما يقول سيمون شامكرتينيان مدير المدرسة الذي يحتل مكانة هامة في المجتمع الارمني لكونه الامين علي تعليم الابناء وهو يوضح لنا ان مدرسته في النهاية خاضعة لوزارة التربية المصرية ما يميزها فقط هو اللغة الارمنية وهي مادة اساسية يرسب فيها الطلاب ومقررة عليهم في جميع السنوات عدا الشهادات, وهو يصفها بانها لغة صعبة في التعلم تكتب من الشمال لليمين, عدد حروفها ثمان وثلاثون حرفا. لكن التزام الارمن بها يسهل الامر علي الابناء, يقول ايضا انها لغة الحديث في النوادي وبها تصدر ثلاث صحف احداها يومية تنشر اخبار الارمن وانشطة النوادي واخبار ارمينيا الوطن الام وكذلك تحمل ابداعات الارمن من شعر وقصة واخبار الكنيسة. والارمن كما يقول السيد شامكرتينيان حريصون على اللقاءات الاسبوعية في النوادي من اجل التواصل الدائم بين العائلات والتعارف بين الابناء والبنات فالارمن لا يفضلون الزواج من غير الارمن لكنهم لا يمنعونه بالطبع ولذلك فالتجمع بالنوادي مهم جدا في هذا الشأن, كذلك تضطلع الكنيسة الارمنية او بطريركية الارمن بدور مهما جدا في تحقيق الترابط بين ابناء شعبها وهناك مجلس ملي مكون من 24 عضوا أغلبهم من غير رجال الدين لتنظيم شؤون الارمن في مصر والعمل على الحفاظ علي الهوية واللغة الارمنية. هم ايضا كما يقول السيد شامكرتينيان على صلة وثيقة بالسفارة الارمينية في مصر لانها الصلة بينهم وبين الوطن الام كذلك تربطهم علاقات جيدة ببابا الارمن في ارمينيا الذي يوجه لهم رسائل مستمرة في الاعياد والمناسبات.
مدرسة كالوسديان تعكس مقدار هذا التواصل, فجدران المدرسة مغطاة بصورة لبابوات ارمينيا وكذلك صور لابطال مشهورين في التاريخ الارمني وكل عشرة امتار تجد ما يشبه مكتبة صغيرة تضم كتبا بالارمنية لاطلاع الطلاب في أي وقت الي جانب صور لمشاهير منهم في مصر مثل كالوسديان ونوبار وبوغوص.
عدد مدارس الارمن في مصر تتناسب طرديا وعكسيا مع اعدادهم فهي اليوم لا تزيد عن مدرستين في القاهرة واخري في الاسكندرية والسيد شامكرتينيان يؤكد ان 90% من الارمن يلحقون ابناءهم بالمدارس الارمنية عدا نسبة قليلة لا تقع في محيطها السكني مدارس ارمنية.