قد يكون التكهن المفرط في ما خص الانتخابات الفلسطينية سابقاً لأوانه. ففي حجم المفاجآت التي انطوى عليها ترشيح مروان البرغوثي، يمكن ان تظهر مفاجآت ربما كان بينها انسحابه؟! والحال انه حتى لحظة ذاك الترشيح أبدى الجسم السياسي الفلسطيني نضجاً ملحوظاً. فقد بدا متنه العريض موحداً حول محمود عباس في لحظة تستدعي التوحد، فيما ظهرت ترشيحات مهنية ونسوية تعطي الانتخابات لوناً مضيئاً. وإذ اتسعت الحلبة لترشيح رمز محترم هو الدكتور مصطفى البرغوثي، بدا ان «حماس» تقدّم نفسها بتواضع متعثّر.
كان الخوف من اسرائيل بجنودها وحواجزها وإعاقاتها ومحاولاتها التأثير والإملاء والمنع بطرق شتى. وفي ظلال المسرح، لاح ان تخريباً آخر قد يأتي من مصدر غير انتخابي، بل غير فلسطيني، ولو حمل عنواناً فلسطينياً عريضاً: ذاك ان فاروق القدومي لفاروق الشرع هو ما كانه ابو موسى وأبو صالح وأبو خالد العملة، وهي أسماء لا تُنسى في سجل العمل الوطني الفلسطيني الموحّد، لعبدالحليم خدام.
هكذا بدت الأمور حتى تراجع مروان البرغوثي، وهو في سجنه، عن تنازله لأبو مازن. فالقيادي الفلسطيني الأسير قرر ان يتنازل ايضاً عن «فتحاويته» ليخوض الانتخابات «مستقلاً»، فيما كانت «حماس»، التي تقاطع النيابية دون البلدية، ترفع وتيرة نقدها لـ«استئثار» فتح و«تفردها».
وما لا شك فيه ان اسم مروان البرغوثي له وقع خاص. فهو، في اية ذاكرة سياسية، يندرج في خانة اندرج فيها قادة يخرجون من السجون الى القصور. وسابقات هذا النمط تتوزّع ما بين ايرلندا (الجنوبية) في العشرينات ونيلسون مانديلا في التسعينات، وفي الوسط يحل كثيرون من القادة الأفارقة والآسيويين.
لكن العالم اختلف وتغيّر. فوصف «المناضل» الذي يسبق اسم البرغوثي لم يعد تزكية للسياسة، فيما تجري مراجعة السياسات النضالية للمرحلة الاستقلالية على قدم وساق.
وحين يظهر مشروع كـ«مشروع اصلاحات الأمم المتحدة» الذي سيصير مُلزماً دولياً، فيصالح مبدأ الحروب الاستباقية، ويقطع بأن حق المقاومة لا يعني «حق» قتل المدنيين، وحين يكون كوفي انان، وهو من عيّن الفريق الذي وضع المشروع، محاصَراً بفضيحة نجله التي تقدمه طبقاً لابتزاز الإدارة الأميركية... يصير وصف «مناضل» عبئاً على صاحبه وقضيته، كائنة ما كانت درجة الحق في القضية ودرجة البراءة في الرمز.
وما من شك، الى ذلك، في ان حالة البرغوثي ستكون عرضة لاعتصار من طرفين، وهو اعتصار معالمه واضحة جداً: فمن جهة يطلق شارون وبعض وزرائه المدى لعنجهيتهم وسينيكيتهم إذ يقولون ان في وسعه استئناف نشاطه من السجن (كما لو انهم يضيفون ضمناً: مثلما كان عرفات يمارس نشاطه الرئاسي من «سجن» المقاطعة). ومن جهة اخرى، تتجاوزه راديكالية عبّرت عنها ببلاغة «حركة الجهاد الإسلامي»، معلنة مقاطعة انتخاباتٍ «مرجعيتها اتفاق اوسلو».
وهذا وذاك يقولان إن من الأفضل ان ينسحب البرغوثي حتى لو بدا قادراً على حصد الأكثرية الشعبية. ذاك ان رئاسته لن تكون إلا حقبة جديدة من المرارة للشعب الفلسطيني، خصوصاً ان البرهنة على ان اميركا «لا تحترم الديموقراطية إلا حين تكون في صالحها» حصلت مراراً في السابق. وفي الأحوال كافة، فأن تكون الحماسة للبرهنة اقل من الحماسة للخلاص الصعب أفضل من ان يكون العكس.