في الساعة العاشرة والربع من صباح يوم الأربعاء 2 يوليو 1954 تقدم شاب صغير الى صندوق البريد الجوي بمبنى هيئة البريد في الاسكندرية، ووضع لفافة صغيرة مغلفة بعناية ومرسلة الى شخص يدعى روبير طوغاي، عنوانه «صندوق بريد رقم 1614 ـ القاهرة» وقد كتبت هذه البيانات بالحبر، وبخط اليد، وبالحروف الأفرنجية.
في اللحظة نفسها تقدم الى صندوق الطرود المجاور شابان في العمر نفسه والطراز نفسه وألقيا بلفافة مشابهة، لكن مرسلة الى شخص آخر يدعى أ. بطرس، عنوانه «1260 شارع التتويج ـ الاسكندرية».
بعد ثلاث ساعات إلا ربع الساعة دق جرس التليفون في مكتب الصاغ (رائد) ممدوح سالم، الضابط بالمباحث العامة (وزير الداخلية ورئيس مجلس الوزراء فيما بعد) بالاسكندرية وأبلغ بحدوث حريق في مبنى البريد.
في الساعة الثامنة من مساء اليوم نفسه دخل أحد هؤلاء الشباب لكن بصحبة فتاة إلى مكتبة المركز الثقافي الأميركي في شارع فؤاد بالاسكندرية (كان يطلق عليه وكالة الاستعلامات الأميركية) وهو يحمل في يده جراب نظارة مصنوعاً من الجلد تعمد أن يتركه على أحد رفوف الكتب وغادر هو والفتاة المكان بعد عشر دقائق، بعد 45 دقيقة دق جرس التليفون في مكتب ممدوح سالم وعرف أن حريقا شب في المركز الثقافي الأميركي.
في الليلة نفسها، وفي الوقت نفسه، لكن، في القاهرة شاهد ضابطان من شرطة الحراسات ألسنة اللهب تندلع من مكتبة المركز الثقافي الأميركي، وبهذا الحادث أصبح مؤكدا أننا أمام جريمة تخريب سياسية.
في الساعة السابعة من مساء يوم 23 يوليو (الذكرى الثانية للثورة) كان النقيب حسن زكي المناوي معاون مباحث قسم شرطة «العطارين» بالاسكندرية يمر في أثناء خدمته في شارع فؤاد عندما سمع صوت فرقعة أعقبها استغاثة صادرة من مدخل سينما «ريو» والتفت الضابط ليجد شابا تمسك النيران ببنطلونه .
ويحاول إخمادها فتدخل لإنقاذه، وعندما سأله عن السبب ألقى السبب على اشتعال علبة الكبريت في جيبه، لكن، ما أثار ريبة الضابط أن الشاب رفض الذهاب الى المستشفى للعلاج رغم أن حالته خطيرة، وبتفتيش جيوبه وجد مبلغ 395 قرشا، وسلسلة مفاتيح، وبطاقة اشتراك في نادي التجديف، وشريطاً لاصقاً، وقنبلة حارقة في جراب نظارة من محل مارون إياك.
كالصقور الجائعة التي وجدت أخيرا فريسة شهية انقض مفتش المباحث العامة بالاسكندرية المقدم محمد سمير درويش ومساعدوه على الشاب التعس، وفي أقل من ساعة كان قد قال الكثير.
اسمه فيليب هرمان ناتاسون، يهودي، عمره 21 سنة، يعمل في مكتب سمسار يهودي في بورصة القطن، غير محدد الجنسية، ولد في مصر، يعيش مع والديه في فيلا بحي «بولكي» الراقي بالاسكندرية، يهوى التصوير والتحميض بنفسه، أما اعترافه المذهل فهو إنه عضو في منظمة صهيونية إرهابية هي المسئولة عن الحرائق التي وقعت في تلك العملية الشهيرة التي عرفت في التاريخ باسم «عملية سوزانا» .
أو فضيحة لافون نسبة الى وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت بنحاس لافون، كانت الشبكة مكونة من (13) عضوا، يرأسها ضابط في الجيش الإسرائيلي هو إبرام دار وشهرته جون دارلنج.
ولم يقبض عليه، هو أو مساعده بول فرانك، وقد انتهت المحاكمة التي رأسها العميد محمد فؤاد الدجوي باعدام الدكتور موسى ليتو مرزوق الطبيب بالمستشفى الإسرائيلي بالقاهرة وصمويل عازر وكان مدرسا، وكانت الأشغال الشاقة المؤبدة من نصيب فيكتور ليفي ـ سمسار ـ وفيليب ناتاسو.
وهو سمسار أيضا، وكانت الأشغال الشاقة لمدة 15 سنة لكل من فيكتورين نينيو وشهرتها مرسيل، موظفة بشركة الفابريقات البريطانية، وروبير نسيم داسا، كاتب تجاري، وحكم على كل من ماير يوسف زعفران (مهندس معماري) وماير يوسف ميوحاس (قومسيونجي) بسبع سنوات أشغال، وبرأت المحكمة إيلي جاكوب نعيم، الموظف بشركة شوارتس، وسيزار يوسف كوهين، الموظف ببنك زلخا.
طوال 13 سنة لم تكف إسرائيل عن المطالبة بالإفراج عن هؤلاء الجواسيس مستخدمة كل أصدقائها في الغرب، وتلقت مصر عروضا مالية مغرية وعروضا تكنولوجية متقدمة مقابل ذلك، لكنها رفضت، لكن، جاءت حرب يونيو 1967 لتقلب كل موازين الرفض الى قبول، لقد جرى تبادل من بقى في السجون منهم بأسرى مصريين قبض عليهم في تلك الحرب، كان من بقى هم:
فيكتور ليفي، فيليب ناتاسون، ومرسيل نينو، وضموا إليهم جاسوسا آخر في قضية مختلفة هو فولف جانج لوتز، تسلمتهم إسرائيل في عام 1968 بواسطة الصليب الأحمر، وتحت علم الأمم المتحدة.
وبعد مباحثات الكيلو (101) وإتفاقيتي فك الاشتباك التي جرت بعد حرب أكتوبر وافق الرئيس أنور السادات على تسليم الجواسيس الإسرائيليين الذين كانوا في السجون المصرية، بل أكثر من ذلك تسلمت إسرائيل جثتي موسى مرزوق وصمويل عازر اللذين أعدما.
وهو ما شجع الإسرائيليين على طلب جثتي إلياهو حكيم وإلياهو بن تسوري اللذين قتلا اللورد موين في عام 1944.، وفي المقابل أفرج عن معتقلين ومساجين مصريين كانوا هناك.
ما جرى من تبادل ليس أمرا غريبا، فكل دول العالم تفعل ذلك، إن كل أجهزة المخابرات القوية والخفية تجد نفسها في كثير من الأحيان مضطرة للمساومة، والمقايضة، لحم بشري من هنا مقابل لحم بشري من هناك.
وفي سور برلين كانت هناك قبل هدمه بوابة تحت حراسة مشددة، كانت تسمى بنقطة الصفر، كان يجري عندها تبادل الجواسيس بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي في سنوات الحرب الباردة.
وعند هذه النقطة جرى تبادل نحو 15 ألف جاسوس من الجانبين في الفترة ما بين عامي 1945 و1990 وهو ليس رقما كبيرا في حرب كانت تعيش على الجواسيس الذين تحولوا بعد انتهائها الى عمال نظافة وخفراء ليليين وباعة في محلات الب قالة.
وفي مذكراته يصف آلن دالاس أول مدير لوكالة المخابرات المركزية (الأميركية) جواسيس الأعداء الذين قبض عليهم في بلاده ويحتفظ بهم في سجونه بأنهم «أغلى لحم بشري» فهو لا يوزن بالمال، ولا بالماس، وإنما يوزن بلحم بشري مماثل في القيمة، مختلف في الجنسية، إن القبض على جاسوس من دولة معادية يعني زيادة أرواق الضغط على تلك الدولة، يعني حرية مواطن.
أو أكثر قد يقبض عليه ويسجن هناك، وهو ما حدث في قضية الطلاب الستة المصريين الذين قبض عليهم في إسرائيل وقدموا الى المحاكمة بتسع تهم (التسلل غير المشروع والتخطيط لاختطاف دبابة إسرائيلية وقتل طاقمها والتخطيط للسطو على بنك هناك لتمويل عمليات أخرى).
وهي تهم لو ثبتت تؤدي الى السجن مدى الحياة، وأفرج عنهم مقابل إطلاق سراح الجاسوس الدرزي الإسرائيلي عزام عزام الذي قبض عليه وأدين بتهمة التجسس على مصر عام 1997 وكان الحكم بسجنه 15 سنة.
حاول البيان الرسمي تبرير الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي بأنه جرى طبقا للقواعد المعمول بها في السجون التي تسمح بالإفراج عن بعض المساجين بعد نصف المدة لحسن السير والسلوك، وهو تبرير كان الأفضل منه أن يقال إن «ظفر» طالب مصري واحد من الستة المقبوض عليهم أهم من مائة جاسوس مثل عزام عزام.
إن حرية مواطن مصري، وعودته الى حضن بلاده هو قيمة سياسية وإنسانية عالية لا يجوز الخجل منها، ولا البحث عن مبرر لها مهما كان حجم الغضب والاعتراض الخارجي على هذا القرار.
لقد كنا نأخذ على الحكومة في بلادنا أنها لم تكن تتدخل بالقدر الكافي لإنقاذ المصريين من المتاعب التي يقعون فيها بعيدا عن وطنهم، فلو فعلت ذلك يجب أن ننحني لها، مهما كان الثمن والمقابل، إن مصر رفضت عشرات المرات الإفراج عن عزام عزام، رفضت كل الضغوط والإغراءات كي تفعل ذلك.
لكنها شعرت أن أفضل مقايضة بحريته وعودته الى اسرائيل هي حرية ستة من أبنائها، وعودتهم الى أهاليهم، هي مقايضة شجاعة وجريئة، أفسدها التبرير الرسمي، فما جرى لا يستحق الخجل، ما جرى يستحق التقدير.
وبقدر ما يعتبر الجاسوس الأجنبي عملة صعبة تستخدم في الوقت المناسب لا يعامل الجاسوس المحلي (لا أقول الوطني) بالمثل، بل بالعكس، يعتبر عارا لا يمحوه سوى استكمال مدة العقوبة الجنائية كاملة، إنه أقل ثمن يجب أن يدفعه جزاء خيانته.
لقد نجحت المخابرات الإسرائيلية في تجنيد رجل كان يعمل بالتدليك هو علي العطفي، كان يسعى الى الحصول على درجة الدكتوراة كي يبقى عميدا لمعهد العلاج الطبيعي في مصر، فقدم نفسه الى السفارة الإسرائيلية في هولندا، وعرض عليهم التجسس لحسابهم في مصر مقابل تلك الشهادة اللعينة، كان ذلك في عام 1969،.
وبقى يفعل ما يؤمر به عشر سنوات، حتى قبض عليه في بيته بالزمالك، في عام توقيع إتفاقية الصلح بين مصر وإسرائيل، وعندما طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحم بيغن ـ وكان في زيارة الى مصر ـ من الرئيس أنور السادات الإفراج عنه رفض بشدة، وقال: إن العرف جرى بالإفراج عن الجواسيس اليهود، لكن الإفراج عن جاسوس مصري، لا، هذا مستحيل.
وكان أن بقي علي العطفي في السجن حتى فقد بصره، ثم فقد عمره. إن كل شيئ له أصول وقد حافظت مصر في كل الأوقات والعصور على هذه الأصول سواء فرح الجيران أو خبطوا رؤوسهم في الحائط، الأصول أصول.