مع بعض المبالغة، يمكن ان يذكر النقاش الدائر حول اليسار في لبنان بعنوان مسرحية شكسبير lt;lt;الكثير من الضجيج للاشيءgt;gt;. فإذا أخذ اليسار اليوم من ناحية الحجم لما شكل بعديد محازبيه ومناصريه ما يوازي عدد المشاركين في تظاهرة تدعو إليها قوى مذهبية او طائفية. واذا اخذ لناحية التأثير السياسي في ادارة شؤون البلاد، لكان بعد اقل فعلا واثرا. أما في المجال الثقافي الذي كان فيه لليسار القول الفصل في عقود خلت، فكرا وأدبا وفنا، فتبدو المساهمة اليسارية اقل من قليلة.
نحن هنا اذا أمام مظاهر اضمحلال واندثار جاوزت حد الازمة الشهيرة التي يقال ان اليسار وقع فيها منذ ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. مع ذلك يعثر القارئ في لبنان على الكثير من الكتابات التي تتعلق باليسار وشؤونه ومستقبله وازمته ربما تزيد عما يكتب ويقال عن مستقبل التيار او التيارات الاسلامية اللبنانية التي تعتبر نفسها في حالة نهوض.
التفسير الابسط لهذا التباين بين النقاشات الدائرة في فلكي التيارين اليساري والاسلامي، يقول بترابط عضوي بين lt;lt;التفكيرgt;gt; او الفكر السياسي وصوغه وبين lt;lt;التغييرgt;gt; كإخراج للنظرية من حيز الفكر الى الواقع الملموس بهدف تجاوز الواقع القائم، بغض النظر عن تسمياته. ابعد الاسلاميون اللبنانيون انفسهم عن مهمات التغيير السياسي بل ذهب البعض منهم الى احتقار هذه المهمة واعتبار نفسه اكبر وأخطر من ان ينزلق الى متاهات السياسة اللبنانية حاصرا همّه في القضايا الكبرى كالتحرير والتصدي للاستكبار العالمي.
ضمور الهم التغييري والانخراط في عملية إعادة إنتاج النظام من جانب القوى الاسلامية الرئيسة، يعبر عن حالة من الاطمئنان الى ان تحصيل الحقوق او الجزء الاكبر منها قد وفرته صيغة المحاصصة الحالية وان ما يجب تحسينه هو مستوى اداء ممثلي الطوائف الاسلامية في النظام. وهذه مسألة لا تستدعي إعمالا للفكر ولا البحث عن إجماعات وطنية جديدة على غرار ما شهدته الساحة الاسلامية قبل الحرب الاهلية.
على الجانب الثاني، يتخذ التعبير عن السخط من حكم الطائف المعدل (او حكم الانقلابيين على الطائف) أشكالا شتى من الاستنكاف والاحباط والهجرة الى العمل على إنعاش تحالفات جبهوية تستند الى مشروع الحد الادنى الذي تمثله المرجعية المارونية وصولا الى الارتماء في احضان اوهام تقوم على امكانية توريط قوى دولية لإنقاذ المسيحيين المهددين بالانقراض الديموغرافي والسياسي. وواضح ان اشكال التعبير السياسية المسيحية المشار إليها لا تتطلب جهدا نظريا يتجاوز نقد الآخر مقابل اظهار مظلومية الذات (والآخر هو دائما الطرف غير اللبناني في معادلة الحكم، اذ يستحيل على السياسيين المسيحيين الاعتراف بوجود شريك مسلم يمتلك حق تقرير مصيره، في مقابل اتهامات جاهزة بالعمالة للأجنبي توجه بسهولة شديدة الى السياسيين المسيحيين).
فالحفاظ على الدور المسيحي، من وجهة نظر السياسة lt;lt;السياسويةgt;gt; يمكن تحقيقها عبر تحالفات واتفاقات مع الخارج القريب (السوري حاليا) للسماح بالتمتع بنِعَم حصة اكبر من السلطة على حساب الطرف المحلي المحسوب على هذا الخارج، او مع الخارج البعيد (فرنسا والولايات المتحدة) لإرغام الخارج القريب على تغيير المعادلة ولو بالقوة المسلحة.
تنتفي في هاتين النظرتين إلى العمل السياسي ضرورة البحث النظري لا في آفاق التغيير وآلياته فحسب بل ايضا في كل ما يمت بصلة إلى عالم الشأن العام. فتترك قضايا المجتمع امانة لدى مجموعة من الاكاديميين يدلون بآرائهم او لا يدلون وفقا لنشاطهم وأولوياتهم.
يتقدم هنا بعض اليسار بأدواته وأفكاره التي تستحق إعادة نظر شاملة لإزالة ما علاها من الصدأ، باحثا عن دور لا طائفي في بلاد الطوائف. هذا البحث يدفع حتما الى التفكير. لكنْ للتفكير شروط ولكي يكون التفكير سليما، شروط مختلفة تماما.