هناك فرق كبير بين دعوات تطالب بتطوير اللغة العربية وتنقيتها من شوائب كثيرة علقت بها، ودعوات أخرى تسعى الى تدميرها، ومن وقت لآخر يثور جدل وحوار حول موقف اللغة العربية، هناك من يرى انها تخلفت كثيرا عن روح العصر، وهناك من يرى انها في حاجة إلى زلزال كبير يحرك مياهها الراكدة وينطلق بها نحو آفاق من التطور والمعاصرة، وهذه الدعوات كلها مطلوبة مادامت تسعى الى تأكيد أهمية اللغة العربية ليس على المستوى الثقافي أو التعليمي، ولكن على المستوى اصلسياسي والقومي لهذه الامة، فلا شيء يسبق اللغة العربية في اهميتها ودورها في جمع ما تبقى بيننا من اشلاء تناثرت بين الحروب والاحتلال والضياع السياسي والعجز بكل ألوانه.
لا شك أن محنة اللغة العربية قد وصلت إلى أسوأ حالاتها ومن يريد أن يتأكد من ذلك فعليه ان يراجع مستوى تعليمها في المدارس، ودرجة استخدامها في أجهزة الاعلام والثقافة بل وصل الأمر إلي أن اللغة العربية اصبحت غريبة في بيتها وفي مؤسسة عريقة مثل الازهر الشريف، كثيرا ما يخطئ المدرسون في تعلم اللغة العربية وكثيرا ما يخطئ العاملون في اجهزة الاعلام والثقافة في ابسط قواعدها، وكثيرا ما يخطئ الدعاة والائمة على المنابر وفي ساحات المساجد وهم يتحدثون لغة القرآن.
ومن جانب آخر فان الساحة مليئة بنماذج فجة في الكتابة التي تحمل اسم الإبداع حيث نرى الروايات والقصص وهي تجمع كل ألوان التفكك والركاكة في الاسلوب والصياغة ومدى الالتزام بأصول اللغة وجمالياتها.
ولا توجد في الكون لغة لقيطة، ان لكل لغة جذورها ونسبها وأصولها وقواعدها واشكالها الفنية متعددة الصور والألوان، ومن الخطأ أن ننظر للغة على اساس مجموعة من القواعد الشكلية الجامدة، فإذا كانت هناك قواعد في النطق أو الحركة أو السكون، واذا كانت هناك ضوابط في النحو أو الصرف، فهناك قيم أهم واخطر تتجسد في الجوانب الجمالية للغة من الاسلوب والايقاع والصورة والقدرة على التعبير.
وللأسف الشديد أن كل من يهاجم اللغة العربية يتوقف عند قواعد النحو والفاعل والمفعول، وهذه ثوابت لا توجد في اللغة العربية وحدها ولكن لكل لغات العالم ثوابتها وقواعدها الملزمة، ولهذا ينبغي أن يكون الهدف هو تطوير اللغة في أساليبها، وجمالياتها وقدرتها على مواجهة ظروف ومتغيرات الحياة، ولن يكون ذلك بالهدم، ولكن ينبغي ان يكون بالبناء.
ولوأننا تتبعنا جذور الأزمة لاكتشفنا ان لها اكثر من جانب
يجب ان نبحث عن وسائل حديثة لجذب الطلاب إلى لغتهم، ان هناك فجوة كبيرة بين الطلاب واللغة العربية والسبب في ذلك يرجع الى تلك المناهج المتخلفة التي تفرض عليهم نماذج لغوية لاتتناسب مع روح العصر ومتغيرات الحياة، ما زال الاسلوب التقليدي في تعليم اللغة العربية هو السائد، وما زالت نماذج الشعر القديم بكلماته المعقدة وصوره البعيدة عن الفهم تقف حائلا بين ابنائنا وعشق لغتهم العربية، وفي شعرنا القديم نماذج سهلة واساليب مفهومة ولا ينبغي ابدا أن يكون الاختيار الخاطئ للنماذج الشعرية والنثرية عقبة امام أبنائنا تجعلهم يهربون من لغتهم.
ولا مانع هنا من استخدام التكنولوجيا الحديثة في الحاسوب والانترنت من أجل تشجيع الاجيال الجديدة على التعامل مع لغتها.
ان نقطة البداية ان يكون هناك مصالحة، بين النص اللغوي، والعقول الشابة، ولا يعقل ان نطبق في مدارسنا نفس القواعد في تعليم اللغة العربية كما تعلمتها أجيال سبقت من خمسين عاما مضت، هناك وسائل حديثة في تعليم اللغات يجب أن نطبقها في مدارسنا.
يأتي بعد ذلك دور الاعلام، وليس معنى أن يجيد المتحدث اللغة العربية الا يكون بسيطا في اختيار الالفاظ أو متعاليا في طريقة الحوار أو قادما الينا من عصور مضت، ليس من الصعب ابدا أن تكون هناك لغة بسيطة تحافظ على ثوابت اللغة العربية ولكنها تحمل في نفس الوقت روح الزمن الذي نعيشه، والعصر الذي لا نستطيع الخروج منه.
وهذا ينطبق على احاديث العلماء ورجال الدين والمفكرين وكبار المثقفين، يجب أن يكونوا قدوة في البساطة والقدرة على الاقناع بعيدا عن التقعر واستخدام الكلمات الغريبة، وفي نفس الوقت يجب أن يكون هناك حرص كامل على استخدام اللغة الفصحى لأنها النموذج خاصة في البرامج الثقافية والفكرية والحوارات ونشرات الأخبار والموضوعات التسجيلية لأن ذلك يمثل دروسا في اللغة قبل أن يكون عملا اعلاميا.
ولا أدري ما السبيل لتقديم مدرس عصري للغة العربية خاصة ان الثانوية العامة هي التي تدفع بالآلاف من الطلاب الي كليات اللغة العربية والتربية ودار العلوم؟ وللأسف الشديد انهم يدخلون هذه الكليات ليس حبا في لغتهم ولكن امام ضرورات المجموع، ان هذه الكليات في حاجة الى أجيال جديدة تدرس لغتها من منطلق الحب والاحساس بقيمها، وهذه الأجيال لن تخرج من مدارس مازالت حتى الآن تقدم اللغة العربية في صورة غريبة لا تتناسب مع الزمن، وما ينطبق على الجامعات والمدارس ينطبق ايضا على وسائل تدريس اللغة العربية في معاهد الأزهر وجامعته العريقة.
ولاشك ان اهمال اللغة العربية انعكس بصورة واضحة على مستوى الابداع في الشعر والقصة والرواية والاغنية، لقد صارت اللغة الفصحى غريبة في كل هذه المجالات، ومنذ سنوات مضت كان استخدام بعض الكلمات العامية في قصة أو رواية مثار قلق بين المبدعين الكبار، ولكننا الآن نقرأ روايات كاملة ليست فيها جملة واحدة باللغة العربية الفصحى، وهذا يحتاج الى مراجعة من كبار مبدعينا ونقادنا، حتى لا يأتي يوم لا نرى فيه عملا ابداعيا باللغة الفصحى.
والغريب في الأمر ان البعض يشن هجوما ضاريا على اللغة العربية الفصحى وهناك من يطالب بالغاء النحو، والتوسع في استخدام العامية، وتخليص اللغة من قواعدها وهذه دعوات تحتاج الى مراجعة حكيمة، ان الغاء النحو يعني انه لا فاعل في اللغة ولا مفعول، وإلغاء النحو يعني إلغاء حروف التذكير والتأنيث، وإلغاء النحو يعني أن نجد انفسنا امام هيكل عظمي متآكل للغة عريقة تمتد في أعماق التاريخ ويتحدث بها الآن أكثر من 300 مليون انسان، وهذا ليس من الحكمة في شئ.
ولا استطيع ان أفصل ذلك كله عن البعد السياسي الذي يسعى من خلاله البعض إلى تهميش وتسطيح اللغة العربية الفصحى، واذا كانت كل دولة عربية تسعى الآن لدور خاص بها، واذا كان كل شعب يريد ان يعيش لنفسه، اذا كانت العلاقات الثقافية والسياسية بين العرب تشهد أسوأ مراحلها بأن كل بلد عربي يسعى الآن الي تعميق لهجته المحلية، وهنا انتشر ما يسمى بالشعر النبطي في دول الخليج، وانتشرت اللهجات العامية في دول أخرى، وهذا كله يصب في هدف واحد هو تقطيع جسور التواصل بين الشعوب العربية على المستوى الثقافي، وهو هدف تسعى اليه اطراف كثيرة ان تهميش دور اللغة العربية الفصحى في حياة الشعوب العربية وبين اجيالها الجديدة سوف يصل بها يوما الى درجة القطيعة الثقافية، وهنا سيحدث انفصال كامل عن الواقع الذي نعيشه، والتاريخ الذي ربط بيننا، والجذور التي امتدت قرونا طويلة في تشكيل الثقافة العربية، ولهذا فإن الدعوة لتطوير اللغة العربية يجب أن يكون هدفها تأكيد هذه اللغة وليس التشكيك في قدرتها على الاستمرار.
وبجانب هذا فان اللغة العربية لغة القرآن الكريم، وهذا يعني أن تراجعها، شئنا أم أبينا، سيكون على حساب عقيدتنا الدينية، وهناك اطراف دولية كثيرة تحاول النيل من ثقافتنا وديننا ولغتنا تحت دعاوى كاذبة ان هذه الثقافة تصنع الارهاب.
أن اللغة العربية واحدة من أعرق وأجمل وأثرى اللغات في العالم وبقدر حرصنا على تطويرها ومواجهة الظروف الصعبة التي تعاني منها سيكون مستقبلها، أما اذا اتجه البعض منا الي توجيه السهام اليها فهذا لن يخدم لغتنا ولكنه يخدم اطرافا اخرى كلنا نعرفها تسعى الآن الى ضرب جذور هذه الامة.
لقد شهدت السنوات الأخيرة عشرات المؤتمرات التي تطالب بحماية اللغة العربية، وهنا يجب أن نطالب بالحماية ليس على المستوى الثقافي فقط ولكن على المستوى السياسي والقومي، لأن اللغة العربية في حقيقة الأمر تدخل في اطار قضايا الأمن القومي العربي، وفي ظل دعوات مشبوهة لشرذمة العالم العربي وتشويه تاريخه، وضرب ثقافته تقف اللغة العربية في مقدمة هذه الاهداف، فلا أحد يريد الآن للعرب أن يجمعهم تاريخ واحد، ولغة واحدة وعلى الأجيال الجديدة التي يجري الآن استنساخها ان تتشكل في ظل واقع جديد بلا جذور أو هوية، وهذه دعوات يجب أن نتصدى لها حتى لايصبح العرب يوما أمة بلا لغة، ولا تاريخ.