«الأذكى»، «الأكثر جرأة»، صاحب الأوسمة، «الأكثر صدقاً»، عدو التضليل، وخصم الهزيمة... تلك صفات يعرفها جميع الأميركيين، لأنهم باتوا يعرفون صاحبها: جون كيري، مرشح الديموقراطيين، صاحب شعارات «الابتكار الخلاّق»، والاعتماد على الذات، والاستغناء عن نفط الشرق الأوسط.

مزايدات انتخابية؟ نعم، وبالتأكيد لم يخطئ البيت الأبيض برئيسه الجمهوري جورج بوش، حين نعت كيري بالتخبط بين الشيء ونقيضه، بالدعوة إلى مراعاة الحلفاء والأصدقاء، ثم اغضابهم بتجاهل حتى المصالح المشتركة. وإذا كان أصغر خبير، كما يقول البيت الأبيض، قادراً على كشف زلة جون المتعالي على الحاجة إلى نفط الأصدقاء، المتجاهل لحقيقة عدم امتلاك الولايات المتحدة بدائل، فالحال أن غالبية الأميركيين تنقاد وراء شعارات القوة، والتبجح بالذات، ونكران حاجات الآخر ومصالحه.

آخر الاستطلاعات يشير إلى أن هذه الغالبية لم تعد ترى مبرراً شرعياً للحرب على العراق، ولكن، لا كيري ولا غيره يستطيع إعادة هذا البلد إلى مرحلة ما قبل الغزو، وكأن شيئاً لم يحدث. بل ان جون الذي يلوّن مواقفه بين ولاية وأخرى، في حملاته الانتخابية لم يقل يوماً انه ضد هذه الحرب. والمثال، في كل الأحوال، أن «الوعي الجماعي» لدى الأميركي، من تكساس إلى واشنطن وفلوريدا، واحد، وكلما نطق الرئيس، صفق الجميع. ألم تكن الغالبية مع ازاحة «كابوس التهديد العراقي» بالقوة، ولو كلف ذلك عشرات الآلاف من القتلى؟

أليست هذه الغالبية أيضاً مع حلم الاستغناء عن نفط الخليج؟ وإذا كان التمني شيئاً والواقع أمراً مختلفاً، فالأكيد أن مرشح الديموقراطيين عزف على أوتار الغرور الأميركي، كما رقص جورج بوش على ايقاع الموت، بعد سقوط ثلاثة آلاف قتيل في 11 أيلول (سبتمبر)، فلم يعد الأميركي في بوسطن أو ميشيغان يرى مشكلة أخلاقية - إنسانية في تبرير حروب، تحصد آلاف الضحايا، في أفغانستان والعراق. بل ربما لن يشعر بعقدة ذنب، إذا فاز بوش بولاية رئاسية ثانية، ومعه صقور المحافظين الذين يعدّون لاكمال حلقات حروب في المنطقة.

الوجه الآخر للغرور البشع، فيما يتجاهل كم خدمت مصادر الطاقة في الخليج مصانع أميركا وديمومة شرايين اقتصادها، هو زج مصالح الآخرين في سوق مزايدات، لو حصلت في بلد آخر لجردت واشنطن أساطيل البنتاغون وبوارجه الى أقصى بقاع الأرض، بحجة الأمن القومي للولايات المتحدة.

وإذا قيل إن كيري لو امتلك ناصية الحظوظ لكان الأجدر به أن يعد لحملته الانتخابية بقراءة تاريخ وجغرافيا، وتعلم بديهيات الاقتصاد والطاقة، فالواقع أنه ليس مثالاً لجهل يحتكره أميركيون، بدليل ما فعله سيلفيو برلوسكوني بالحضارة الاسلامية ودورها في الغرب.

والجهل بمثيله يحكى، وفي كل الأحوال، ومهما تباينت ألوان كيري وحماسته لحروب «ذكية»، فالواقع ان إدارة بوش ذاتها أرست نهجاً من العداء إزاء شعوب المنطقة ومصالحها وقضاياها، ولو تلطت أحياناً بحرية الإعلام في الولايات المتحدة حيث بات كتاب أعمدة في الصحف «يحاكمون» حكومات، ويشرّحون أنظمة، بذريعة الحرب الكونية على الارهاب... فكيف إذا كان «القاضي» هذه المرة مرشحاً لـ«قيادة» العالم من غرف البيت الأبيض.

لا عدل في وعي الأميركيين لأخطائهم وكبواتهم، وخطاياهم في العالم، ولا انصاف في اعتبار مصالح الآخر مجرد حاجة آنية، أو قياس مواقفه على لائحة الأبيض والأسود، منذ قسمت الإدارة الحالية «الكونية» العالم معسكرين. ولا أحد ينسى، منذ ما قبل صعود شعارات كيري، ان هذه الادارة هي التي روّجت نظريات التشكيك بالحاجة الى تكتلات دولية ومنظمات اقليمية ودولية، مثل «أوبك»، وبمدى ملاءمة قراراتها المصالح الأميركية.

ولكن، يجدر بالأصدقاء والحلفاء، ألا يتجاهلوا مشروعية السؤال عن المصادر البديلة لحماية اقتصاداتهم ومصالحهم، والأسواق البديلة من السوق الأميركية العملاقة للثروة النفطية، بل بدائل النفط ذاته، في حال حلّ يوم اخترع فيه كيري أو غيره سيارات تمشي بالماء المقطرة، أو بقوة بخار الكوكاكولا.