عادت دعوة اللاعنف الى الاطلال بقوة في أجواء الجدل حول وسائل النضال الفلسطيني. ولا ندري ما كنه الصلة بين الغلو الارهابي الاسرائيلي ضد القوى والأطر الفلسطينية بكل رموزها وملاحقة قياداتها بالقتل العمدي المستهدف وبين استنفار دعاة المقاومة المدنية لجهودهم على المسار الفلسطيني لكن تزامن الظاهرتين يسوغ تحري هذه العلاقة وتبصر مقاصدها.
في خطابهم يجمع هؤلاء الدعاة بين تحذير الفلسطينيين من تقمص عقلية جلاديهم الصهاينة، واسداء النصح بقراءة الخبرات الناجحة للمقاومين باللاعنف بدءا من تجربة المهاتما غاندي في الهند شرقا الى حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة غربا.. وهم يحثون الفلسطينيين على استدعاء، ولعله استجداء، انسانية الرأي العام العالمي التقدمي، بدون استثناء ما يعتبرونها «أغلبية صامتة» في اسرائيل ذاتها وعدم التخلي عن الحس الاخلاقي تحت ضغوط همجية العدو الى درجة الرد على الدبابات بالقاء المنشورات داخلها ومواجهة الأباتشي والمدافع الرشاشة بأغصان الزيتون.
ويوشي أصحابنا اللاعنفيون دعوتهم هذه ببعض النصائح الأبوية، مشيرا بتكرارية مملة الى ان الكفاح الفلسطيني (والعربي كذلك) افتقد مطولا لهذا المنظور في غمرة الانشغال المفرط بالمسلح والعنيف. وان البنى الفلسطينية تحتاج الى الشفاء من التعلق المرضى بأشكال نضالية لم تثبت نجاعتها.
يقينا، لا ينطلق أصحاب هذا الخطاب من نيات وبواعث أو أجندات واحدة. فمنهم من يعطفون صدقا على تصحيح مسار حركة التحرر الفلسطينية والعربية. وتأتي دعوتهم المطروحة عن رغبة مشبوبة في توسيع آفاق هذه الحركة وردفها بأمور قد تكون فارقة في تحقيق الاهداف..
لكن منهم أيضا من تحدوهم دوافع أخرى غير هذا العطف أولئك الذين نلحظ في تلاواتهم وأحاديثهم نوعا من التشفي والسخرية بما نفهم منه أحيانا محاولة لشرعنة الارهاب الاسرائيلي ذاته، بصفته رد فعل وليس مبادرة أصيلة على لا عقلانية الفلسطينيين، كونهم ينتهجون العنف مع أنهم لا يملكون أدواته ولا تعمل موازين القوى في صالحهم.
واضح ان الفرق بين هذين الفريقين عظيم لكن كليهما يلتقي على تغييب حقائق مهمة عن خطابة بقصد أو بغير قصد اذ ليس صحيحا أولا ان الفلسطينيين لم يجترحوا أو يطرقوا بديل الكفاح المدني بأنماطه الفرعية التي تزيد عن المئتين.. من النظر للعدو شذرا الى العصيان المدني الشامل..
وليس هنا مقام التفصيلات التي تؤكد ما انطوت عليه التجربة الفلسطينية الكفاحية الممتدة من استخدام لهذه الانماط منذ عشرينيات القرن الماضي. وذلك بما يزامن خبرة غاندي وجماعته (ومن ذلك الاحتجاجات الصحفية، المسيرات والتظاهرات، ارسال الوفود الى الدول المعنية واستقبال مبعوثيها، استثارة الرأي العام على الصعيدين الاقليمي والدولي.. الخ)
وكي لا نبتعد بالأمثلة، فإننا نذكر بأن فلسفة اتفاق أوسلو ومرحلته، هي مما ينضوي في التحليل الأخير تحت هذا البديل. وينتمي اليه أيضا الاستعصام بالشرعية الدولية الفلسطينية والتوافق الفلسطيني شبه الاجماعي عليها، كسقف للمطالب الوطنية. ومن المؤكد ان أية بوادر ومؤشرات تعد بتطبيق هذه الشرعية ـ وربما أوسلو أيضا ـ سوف تبشر بانزواء البدائل الأخرى، فليست الميول الانتحارية التي تحث الفلسطينيين على انتهاج العنف.
ومع تقديرنا لتجربة غاندي ونجاحها، فإنها ـ ثانيا ـ لا تناسب مقام الصراع على أرض فلسطين وما حولها. فلم يكن للاستعمار البريطاني الطبيعة الاستيطانية الصارخة التي للنموذج الصهيوني الاسرائيلي. من هو البريطاني الأحمق الذي ادعى ان الهند انجليزية تاريخا وحاضرا ومستقبلا، كما هو حال الصهاينة (يهود وغير يهود) مع فلسطين؟! نحن في الحالة الأخيرة بصدد عملية كسر عظم وربما استئصال كلي يناسبها أكثر استحضار ما جرى في حالات الاستعمار الاستيطاني..
وهنا لا نجد غير واحد من حلول أربعة هزيمة كلية للمستوطنين (الفرنجة والجزائر) أو هزيمة كلية للمجتمع الأصلي (أميركا الشمالية) ، أو تزاوج واندماج وتهجين (أفريقيا الجنوبية) أو حل ديمقراطي بين المستوطنين والأصلاء بعد توقف موجات الغزو الاستيطاني (جنوب أفريقيا).. ولا نعلم ان المقاومة المدنية ـ وحدها ـ قد نجحت في تمرير أي حل في هذه السوابق.
وثالثا، فإنه يبعث على الدهشة أو الحيرة محاولة فريق المرجفين ضد الكفاح العنيف، المزاوجة بين دعوتهم الى التزام اللاعنف وتهييج النوازع الانسانية الأخلاقية وتحريك قلب الرأي العام ووجدانه.وبين كونهم من المبشرين بالواقعية المسترشدين بحقائق القوة والمصالح المتعينة ! فاللاعنف عموما أميل الى الأخذ بالطاقة الروحية وقوة الحق والعدل.
فيما الواقعية ترجح كفة حق القوة. اللاعنف وسيلة يضطلع بها أناس أقرب الى الارتباط باللامنظور واللامرئي غير المتعين (هل نقول اللاواقعي؟) وفق مفهوم من الصوفية والروحانية. ومن أجل ان تستقيم دعوتهم، ربما كان الأكثر منطقية طرح منهجية تمزج بابداعية بين المقاومتين المدنية والعنيفة (كنموذج جنوب أفريقيا مثلا).
نحسب في كل حال ان البحث في كيفية هذا المزج هو ما ينبغي معالجته جديا في المثل الفلسطيني مع العدوانية الصهيونية. وعلى من يعلق هدف التحرر الفلسطيني بذمة الرأي العام الاسرائيلي أو الدولي، مهتديا بالأمثلة الناجحة تاريخيا (كالهند) أن لا يدع من خاطره وخواطرنا الامثلة الأخرى، التي ما كان للرأي العام فيها سوى دور المترجم لأوجاع القوى الاستعمارية من جراء المقاومة العنيفة.
التعليقات