كان الأسبوع الماضي بالنسبة للذين يؤمنون بأن الحماقة هي الوقود المفضل للامبراطورية أسبوع التبرئة. فأولاً وقبل أي شيء آخر، تمكنت لجنة الكونجرس الأمريكي المكلفة بالتحقيق في هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 من إصدار فصل استشاري في تقريرها حول كيفية التعامل مع الإرهاب، ولكن هذا الفصل لم تظهر فيه لفظة “إسرائيل” على الإطلاق. ولم يتضمن أي جزء من تقرير اللجنة جملة واحدة حول ما قد تكون دوافع للذين نفذوا الهجمات على أمريكا ومدى قدرة السياسة الأمريكية على تقليل خطر وقوع هجمات جديدة.

وفي بوسطن، قبل السيناتور جون كيري ترشيح الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأمريكية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وألقى كيري أمام مؤتمر الحزب الديمقراطي في بوسطن خطاباً تعهد فيه بتحقيق “النصر”، ومن المفترض أنه يقصد النصر في العراق. وقبل أربعين عاماً، خاض ليندون جونسون حملته الانتخابية باعتباره المرشح الذي سيحقق السلام، موحياً بأنه سيسحب القوات الأمريكية من فيتنام. ولكن، وفور انتخابه، عمد إلى تصعيد الحرب التي امتدت لمدة عشر سنوات أخرى مسببة خسائر جسيمة في الأرواح. وعلى الرغم من أن كيري يواجه ناخبين يؤيدون إلى درجة كبيرة الانسحاب من العراق إلا أنه قرع طبول الحرب.

وباختصار، لدى الأمريكيين مرشحان، هما كيري وبوش، يتعهدان بإطالة المهمة الامبريالية والحرب في العراق، ويُظهر كيري نفسه مقاتلاً أكثر من بوش.

ويشكل احتلال العراق كارثة حقيقية. فمن هو المرشح الذي سيضطر، على مضض، لقبول الانسحاب الكامل؟ ولقد تعرّضت الولايات المتحدة بالفعل لهزيمة سياسية في العراق، ولكنها لا تستطيع أن تتعرض للهزيمة عسكرياً مثلما تعرضت لها في فيتنام ومثلما تعرضت فرنسا لها في الجزائر. فكم سيطول الوقت قبل الاعتراف بضرورة الانسحاب؟

ويتحدث بوش وكيري عن البقاء في العراق حتى الانتهاء من المهمة وعن التطلع قدماً إلى اليوم الذي يستطيعان فيه تسليم زمام الأمور للسلطات العراقية بوجود دور أو من دون دور للمجتمع الدولي. ولكن أياً من الرجلين في حال انتخابه لن يكون على استعداد للإجراء الوحيد المشروع حقاً وهو الانسحاب غير المشروط من العراق. ولا يستطيع المرشحان رؤية أن أي سلطة يختارها المحتلّون لن تتمتع بأي شرعية، وأن حكومة عراقية منتخَبة ستصرّ على أن يغادر جنود الاحتلال البلاد ويسلّموا جميع الحدود والقواعد والاتصالات وحقول النفط.

وربما يتوق كثيرون في العراق إلى انتهاء العنف والاحتلال، ولكنهم يعرفون جيداً أن الاثنين يسيران جنباً إلى جنب وأن حكومة تمثل الأغلبية العظمى من العراقيين هي فقط التي بمقدورها أن تأمل في البقاء في السلطة. وعلاوة على ذلك، ولكي تتمكن حكومة كهذه من إثبات الصدقية، ستحتاج إلى إلغاء تحويل ملكية الأصول الوطنية العراقية وإلغاء جميع الترتيبات المبرمة مع مقاولين أجانب كشركة “هاليبيرتون” والمطالبة بالسيطرة الكاملة على جميع العائدات والإنتاج النفطي أو مرافق النقل.

وحتى بعد تسليم “السيادة” الرسمي لا تزال الولايات المتحدة تحتل العراق بعد أن أنفقت نحو 3،2 مليار دولار من إيرادات النفط لإنشاء سلسلة قواعد عسكرية. وتشغل السفارة الأمريكية في بغداد مبنى ضخماً ومهيباً، في حين تم وضع خطط لبناء مكاتب قنصلية هي بمثابة قلاع حصينة في كل من الموصل وكركوك والحلة والبصرة، الأمر الذي يشير إلى أن الاحتلال الأمريكي سيتبع استراتيجية “فرق تسُد”. وستغذي تلك المنشآت المنيعة وهم صعوبة تعرض الأمريكيين في العراق إلى الأذى.

وبالنسبة لأي رئيس أمريكي لن يكون إصدار الأمر بالانسحاب سهلاً. وأياً كانت الطريقة التي يتم من خلالها تصوير الانسحاب، فإن ذلك الانسحاب لن يمثل فقط هزيمة محلية، بل سابقة خطرة وعنصر إذلال، وبدلاً من الإقدام على انسحاب كهذا، سيعمد المسؤولون إلى إطالة الصراع من خلال السعي لعرض حلول والاعتماد على القوة العسكرية وقلة من العراقيين المتعاونين مع الاحتلال وبعض الحلفاء. ولكن ومع استمرار المقاومة وتفكك التحالف، أي الرجلين سيعترف قبل الآخر بأن استمرار الوجود الأمريكي في العراق جزء من المشكلة وليس الحل؟ وهل سينحني جون كيري أمام ما هو حتمي بسهولة أكبر من الرجل الذي غزا العراق وأشرف على احتلاله؟ وقد صوّت كيري إلى جانب غزو العراق ولكنه يستطيع التبرؤ من نتائجه الكارثية والمعلومات الاستخباراتية التي تم الغزو على أساسها. ومن المؤكد أن التصويت لكيري ربما يزيد على نحو ما فرص انسحاب أمريكي في خاتمة المطاف وسيكون ذلك بمثابة رفض شعبي للمتهم الرئيسي بجريمة الغزو.

ويعتقد كثيرون في الدوائر الحاكمة الأمريكية ممن عارضوا الغزو أن تشجيع الانسحاب سيكون حماقة خطرة. وبالنسبة للولايات المتحدة فإن الضرورة الاستراتيجية المتمثلة في عدم الظهور بمظهر الفاشلة، وفي الاحتفاظ بالسيطرة على ثروة ومنطقة حيويتين تكتسب الأولوية.

وحتى في هذه الحال، ألا يستطيع كيري أن يدرك في نهاية الأمر أنه أياً كان الذي يسيطر على العراق، فإن مصير النفط العراقي تحدّده السوق العالمية، وان الانسحاب يعطي أفضل أمل لتعزيز المصالح الأمريكية في أماكن أخرى من المنطقة؟ وأياً كان ما يقوله الآن، أليس من المرجّح أن يكون الرئيس الديمقراطي أكثر انتباهاً من الرئيس الجمهوري للتغير السريع في الرأي العام؟

وعلى مدى الثلاثين عاماً الماضية، كانت فترات الرئاسة التي تولى الحكم فيها رؤساء جمهوريون أكثر دموية من الفترات التي تولى الرئاسة فيها رؤساء ديمقراطيون، فقد شهدت فترات رئاسة ريجان وبوش الأب إقدام فرق الاغتيال في أمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية على قتل مئات الآلاف من الأشخاص بتواطؤ فعال من قوات الأمن والسفراء الأمريكيين، ومن بين هؤلاء السفراء جون نيجروبونتي الذي تم تعيينه مؤخراً سفيراً في العراق. وشهدت تلك السنوات أيضاً تأييد الولايات المتحدة للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين في الحرب العراقية الإيرانية التي لقي خلالها مليون شخص مصرعهم. وفي الأمم المتحدة، حصل بول بوت على الاعتراف في حين أدى تحالف سري مع النظام العنصري في جنوب إفريقيا إلى حروب إجرامية على حكومتي أنجولا وموزمبيق لقي خلالها نصف مليون شخص على الأقل حتفهم.

ولم تشهد فترات رئاسة كارتر وكلينتون رعاية فرق اغتيال إلى هذا الحد، ولكنها لم تخل من معاناة نتجت عن إجراءات اتخذتها إدارتاهما الديمقراطيتان. فمدير مجلس الأمن القومي في عهد كارتر زبيجنيو بريجينسكي هو الذي خطط لاستخدام المسلمين الأصوليين في أفغانستان، مؤججاً الحرب التي أدت لمصرع ملايين الضحايا. ولم يفعل كلينتون شيئاً بشأن الإبادة في رواندا ويتحمل المسؤولية مع بوش الأب والأوروبيين في ما يتعلق بحرب يوغسلافيا. وعندما تصرف كلينتون في البوسنة وكوسوفو شجع المزيد من التطهير العرقي وساعد على رعاية محميات حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي لا تزال تفتقر إلى الصدقية. وأما في العراق، فقد أبقى كلينتون على نظام العقوبات الذي تسبب في قتل مئات الآلاف من أطفال العراق.

وليس من المتوقع أن يقدم بوش في حال إعادة انتخابه على شنّ المزيد من الحروب الاستباقية لأن هذه الاستراتيجية أثبتت أن تكاليفها باهظة. وعموماً، فإن هذه ليست هي الجوانب التي يمكن الحكم من خلالها على أداء الرؤساء.

ويمكن تقويم مرشحي الرئاسة الأمريكيين بشكل أساسي على أساس سياستهم الخارجية بما أنهم يتمتعون في هذا المجال. ويعتمد الرؤساء بدرجة أقل على الساحة الداخلية، على الرغم من أن جورج بوش تمكن من الاحتفاظ بمستوى من النجاح بفضل تخفيضاته الضريبية وتعييناته القضائية والقانون الوطني مستغلاً في الحالة الأخيرة الشعور بالطوارئ. وإذا اتحد الديمقراطيون ستكون الأمور مختلفة بما أنهم يحتفظون، وسيحتفظون، بعدد كافٍ من أعضاء مجلس الشيوخ للقضاء على التشريعات التي عارضوها حقاً، ولكن يوجد دائماً ديمقراطيون يرغبون في تأييد بوش.

وبالنسبة لحملة نادر كاميجو فهي رصينة وليست مغامرة (بكسر الميم)، وحيث ان نادر وكاميجو ليس لديهما ما يخسرانه، فبمقدورهما التخلي عن النهج الذي يتبعانه وتبني أي قضية راديكالية وتقدمية يمكنهما التفكير فيها مثل منح كل أمريكي يبلغ الثامنة عشرة 30 ألف دولار، ووضع حد للقوانين التي تحظر تعاطي المخدرات، وإصدار عفو عن جميع المدانين بمخالفات تتعلق بالمخدرات وحظر عقوبة الإعدام وإقامة دولة فلسطينية تتمتع برقعة أرض غير مجزأة ومرفأ في الشمال، وإجلاء جميع القواعد الأمريكية في الخارج وليس القواعد التي في العراق فقط.. إلخ. وستلقى حملة كهذه المزيد من الاهتمام، وستجتذب الذين لا يدلون بأصواتهم عادة وسيكون لها تأثير لا يسهل التكهن به في سباق بوش/ كيري. وربما تحث مثل هذه الحملة الرأي الانتقادي والتحرك الراديكالي الذي يمثل تقييداً للرئيس المقبل أياً كان.