هذا هو الثاني من اغسطس الثاني الذي يطلّ علينا، بعد سقوط نظام صدام حسين في بغداد، الذي غزت جيوشه دولة الكويت، في مثل هذه الأيام من يوم خميس قائظ الحرارة، قبل أربعة عشر عاماً. أستطيع الاستنتاج، بقليل من التحفظ، أن نظامه كان سيستمر حتى يومنا هذا، وربما إلى ما شاء الله، لو لم يرتكب حماقة غزو الكويت. كان يخطط، حسبما هو منشور، كي يحكم البعث العراق ثلاثمائة عام، وكانت تلك كارثة كبرى على شعب العراق، حين سيأتي يوم يكون فيه القائد الضرورة، هو نجل عدي صدام حسين، على سبيل المثال.
في عِلْم الجدل الماركسي، فإن الشيء يفرز نقيضه، وفي أمثالنا العامة نقول: ربّ ضارة نافعة، وذلك ينطبق على غزو صدام لدولة الكويت. عناده الشديد بعدم الانسحاب بعد أن تلقّي تهديد العالم بضرورة مغادرة جيوشه الكويت المحتلة قبل الخامس عشر من يناير 1991، ينطبق عليه التحليل السابق: (رُبّ ضارة نافعة)، لو استجاب لنداءات العالم، وخرج جيشه قوياً من رمال الكويت، لأصبح السيد المُطاع في كل دول الجوار عموماً. قال له (أي لصدام حسين) الشهيد أبو إياد، حسب روايته لي: (أرجو أن تنسحب الآن من الكويت (وكان ذلك بعد الغزو بأيام)، وأن تعيد آل الصباح للحكم، وليس فلول القوى الوطنية الكويتية، الذين سيتمّردون عليك، يكفي بعدها أن ترفع السماعة وتطلب منهم ما تشاء، وتقفل السماعة دون انتظار الجواب أو الحوار، فهم يعرفون أنك قادر على تكرار ما فعلْت. عناده وغروره دفعاه لرفض النصيحة، وليقول لأبي عمار: (أرجو أن لا يحضر هذا الرجل معك لبغداد، مرة أخرى، تحت أي ذريعة).
ربما كانت توقعاتنا في أن يتصرف عكس ما فعل، فيها الكثير من السذاجة، كل الديكتاتوريين يتسمون بالعناد، ولا يسمعون رأي أحد، ويخوضون المعارك حتى النهاية، فيما يزّين لهم حواريّون يحيطون بهم، بأنّ النصر مؤكد، بإذن الله. هكذا فعل هتلر، وكان بإمكانه الوصول لمساومة في منتصف الحرب، حين كان في أوج الانتصارات، وكان يمكنه تحقيق الكثير، لكنه رفض كل شيء، وأعدم ضباطاً تهامسوا، ذات يوم، بضرورة وقف ذلك النزيف الهائل الذي حصد أرواح مئات الآلاف، في تلك الحرب الكونية المجنونة.
في الكويت، التي قمت بزيارتها عدة مرات، بعد سقوط صدام حسين، ثمة ارتياح كبير لإزاحة ذلك الطاغية، الذي يهدد الكويت مادام في السلطة، فقد انزاح عبء كبير عن كاهلهم، ولكنّ العراق لم يتعاف بعد، والعلاقات العراقية الكويتية، لم تزدهر بعد، كما كانت التوقعات. المتشائمون في ذلك البلد، يلتقطون أي تصريح متشنج لمسؤول ما في حزب ما في العراق، يقول فيه إنه مازال يعتقد أن الكويت جزء من العراق، ليقيموا الدنيا ولا يقعدونها. ستبقى هناك شريحة في بغداد وكل أرض العراق تتحدث بمثل هذا المنطق، ولكن الأمر لن يصل إطلاقاً، تحت أي ظرف، لمرحلة غزو الكويت ثانية. صدام حسين ظاهرة استثنائية، إنه ليس ظاهرة عربية، ولا ظاهرة إسلامية، ولا ظاهرة عراقية، إنه صدام حسين، ولا شيء آخر كما قال لنا مثقف وسياسي عراقي في ندوة (البرلمان الكويتي) المنطقة والمستقبل، وقد حصد النتائج، بما يجعل من المستحيل على أحد بعده أن يفكر بتكرار الغزو.
وإذا قام عقلاء في الكويت، وهم كثيرون، بمراجعة ما فعلوه منذ رحيل النظام السابق في بغداد، سيكتشفون أنهم لم يقوموا بكل ما كان يجب القيام به، رغم تشكيل اللجنة الكويتية للتضامن مع شعب العراق، كنا نطمح في أن نرى وفوداً من كافة المنظمات الشعبية والاتحادات والجمعيات والدواوين في الكويت، تتوجه نحو بغداد، وتلتقي نظراءها في العاصمة والمحافظات، وهو أمر لم يتحقق، ولا يكفي الحديث في صعوبة الوضع الأمني لتبرير هذا التقصير. لا يمكن التخلّص من إرث ثقيل حصاد سنوات عجاف من الاحتراب ، وذلك من خلال القنوات الرسمية فقط. لا بد من حركة شعبية عارمة للتخلص، بالتدريج وبالمراكمة، من ذلك العبء المأساوي الذي أوجد شرخاً بين الشعوب، ولم يقتصر على الحكومات. لاحظوا أن صدام حسين أجاب على أسئلة المحكمة بكثير من التهذيب المصطنع، ولكنه انطلق عدوانياً وشرساً حين تعلق الأمر بالكويت. يعتقد في قرارة نفسه، بأنه يخاطب عقول وقلوب الكثير من العراقيين، بمثل تلك الدعاوي.
ستبدو الصورة والتضاريس السياسية المستقبلية في العراق والخليج ودول الجوار مختلفة عن الصورة السابقة، وذلك يتطلب من الأخوة في الكويت في ذكرى غزو بلادهم، أن يحسنوا قراءة التفاصيل في خليج ما بعد صدام حسين حتى يتجنبوا أيّ خطأ في الحسابات. سيكون هناك، بعد رحلة مد وجزر قد تستمر بعض الوقت، عراق ديمقراطي حليف رئيسي للولايات المتحدة الأميركية، وذلك سيعني، تراجع أهمية الآخرين في الاستراتيجية الأميركية. وسيكون هناك نفوذ إيراني قوي في جنوب العراق، رغم كل محاولات واشنطن وقوى عراقية رئيسية، التقليل من ذلك، قدر الإمكان، وإذا لم يحدث تغيير جذري في إيران باتجاه استلام الجناح الإصلاحي لزمام الأمور، فإنّ رياحاً عاتية، ستهب من طهران باتجاه الخليج وشيعته على وجه التحديد. لن يكون هناك غزو إيراني لأي بلد في الخليج، فقد تم طوي هذه الصفحة، ربما لعشرات السنين، بعد تجربة صدام حسين، ولكن (الإحتواء) هو الوجه الآخر للمجابهة، والسياسة الإيرانية تتميز بالضمور وعدم الإفصاح.
في الذكرى العاشرة لتحرير الكويت، التقيت على هامش الاحتفالات بتلك المناسبة العزيزة، بمسؤول أميركي على مائدة غداء.
سألت : لماذا توقفتم في الحرب عام 1991م ولم تكملوا المشوار لإسقاط صدام حسين في بغداد، كانت الطريق مفتوحة نحو قصوره المتهاوية في ذلك الزمان، لقد طلبتم وقف إطلاق النار لأنكم أنجزتُم المهمة، ولكن صدام حسين اعتبر ذلك نصراً له، وتحدث بإفتخار عنه في كل وسائل الإعلام.
أجاب الرجل الذي فقد الكثير من وزنه، مقارنة بقامته الضخمة التي كُنا نشاهدها على الشاشات. لم نتقدم نحو بغداد، لثلاثة أسباب. السبب الأول أننا، لأول مرة، نأخذ تفويضاً من الأمم المتحدة لقيادة هذه الحرب، هذا اعتراف غير مسبوق بقيادتنا للعالم، ولا نريد تجاوز ذلك التفويض، وهو إخراج جيش صدام حسين من الكويت، وقد أنجزنا المهمة.
والسبب الثاني هو أننا لم نتوقع استمرار صدام حسين في الحكم بعد هذه الهزيمة الساحقة، أردنا ترك التداعيات تأخذ مجراها حتى تسقط الثمرة من تلقاء نفسها، أستدرك هنا لأكتب رأيي الشخصي بأن ذلك (دليل) إضافي إنهم لا يعرفون الكثير عن الحاكم العربي، الذي يجّر بلاده وشعبه لهزائم ويضيع البلاد والعباد ويسمي ذلك نصراً، وإذا كانت الهزيمة كبيرة جداً، أسمى ذلك (نكسة) وإذا كانت كارثة كبرى بحجم ضياع فلسطين أسماها (نكبة) وفي التسمية إحالة المسؤولية على القدر كالكوارث الطبيعية والفيضانات والزلازل وليس بسبب أخطاء وخطايا بني البشر.
أما السبب الثالث، كما سمعته من ذلك الرجل، وهو الأهم في رأيي، فهو الخوف من تصاعد النفوذ الإيراني في عراق ما بعد صدام حسين، خاصة في أوساط شيعة العراق والخليج، وقد يؤدي ذلك لإنفصال الجنوب العراقي. صدام حسين ضعيف، مجروح، أفضل من إيران مهيمن على الخليج، بقوة الأيديولوجيا والدين والتراث الشيعي الغاضب.
أظن أن العراق الجديد، والسياسة الأميركية الجديدة، تتواجه الآن مع نتائج (السبب الثالث) لعدم التقدم نحو بغداد عام 1991، كما تحدث عنه ذلك المسؤول الأميركي. وهو أمر يجب أن يدخل في صميم استراتيجية الكويت والخليج، في علاقتها المستقبلية مع العراق الجديد، دون التمسك بتصريح طائش هنا أو هناك.
وماذا عن العلاقة الفلسطينية الكويتية في مثل هذه المناسبة، واستطراداً العلاقة الفلسطينية العراقية.
أفضل عدم الحديث العلني، على الأقل في هذه المرحلة، وفي فمي ماء. وربما أمواه.