تتراءى مرحلة ما بعد تسليم السلطة في العراق على الرغم من التسليم الشكلي وهي مزدحمة بشظايا التفجيرات ودوي القنابل المحرقة وروائح البارود التي غدت أليفة في هواء العراق، وعجز فرق الأسعاف عن لملمة بقايا الأجساد المتناثرة في الطرقات، في حين راحت جنازير الدبابات الأمريكية تعزف سمفونية الضجيج والإزعاج والمداهمات للشوارع والناس، وعلى أبراجها الموت يلوّح بمواسير المدافع والدوشكات التي تتسابق قذائفها وطلقاتها نحو الأشباح العابرة والظلال المتحركة والبيوت القائمة من دون فرز واستبيان.

وها هي المرحلة الأخيرة تؤكد أسوة بالتأكيدات السابقة ان “حرب التحرير” الأمريكية تطورت بانعكاساتها وردود أفعالها بعد أن أصبحت حرب التفجير والتدمير، حرب مقاومة الاحتلال التي تتعدد هوياتها لتكون الساحة العراقية، ساحة تعج بالموت والاختطاف والسيارات المفخخة والانتحاريين، لا أحد في المقاومة يستطيع إبراز هويته على نحو مؤكد ماعدا هوية الموت.

ليس هنالك وصف للمرحلة الحالية التي غدت فيها أشلاء الجثث تتطاير بالعشرات وليس بحساب الشهر أو الاسبوع بل بحساب اليوم الواحد واللحظة الواحدة والمتزامنة التوقيت، حيث بدت الساحة العراقية في مشهد يومي من حصاد الموت يحمل عنوان “المقاومة”، لكن المقاومة الوطنية بعيدة وبريئة من الأعمال الارهابية التي تطال الجوامع والكنائس والأسواق المكتظة بالناس، لأن المقاومة تعرف أهدافها جيداً وتعرف الساحات التي من خلالها تقاوم الاحتلال مثلما ان الاحتلال يعرف العقد والمواقع والمصادر التي ينطلق منها رجال المقاومة في عتمة الليل وفي وضح النهار.

مقاومة الاحتلال وضراوتها اعترف بها الأمريكيون قبل غيرهم والشهادات الأمريكية في هذا الجانب كثيرة، إذ حذر مستشار امني سابق بالعراق الكونجرس من تزايد حدة التهديدات الامنية بالعراق منذ بداية العام الحالي، وقال ان عمليات المقاومة اصبحت اكثر خطورة وتطوراً خاصة خلال الشهور القليلة الماضية، ومن ناحية اخرى اكد جومبيرت الذي كان مستشاراً لبول بريمر الشيء ذاته مؤكدا انه اصبح من الصعب التصدي لها.

وتأتي تعليقات جومبيرت في وقت تزايد فيه معدل القتلى والاصابات في صفوف القوات الامريكية، فعلى الرغم من محاولة الاحتلال اعطاء قوات الامن العراقية دوراً اكبر في التصدي لهجمات المقاومة الا ان معدل قتلى الجنود الامريكيين استمر بمعدل جنديين يوميا، حيث كشفت احصاءات لوكالة “اسوشيتدبرس” ان حصيلة شهر يوليو/ تموز الماضي من القتلى الامريكيين بلغت نحو 47 قتيلا في مقابل 42 قتيلا الشهر الذي سبقه فضلا عن ان عدد المصابين بلغ 6000مصاب ليرتفع بذلك اجمالي عدد القتلى في العراق الى نحو 900 قتيل.

ان المقاومة العراقية تواجه في الوقت الحاضر إشكالية دخول على هويتها من قبل مجموعات احترفت الارهاب من خارج الحدود، مستغلة في ذلك ظروف العراق بعد احتلاله لتمارس عملها الارهابي وعلى حساب سمعة المقاومة العراقية التي قامت احدى مجموعاتها في وقت سابق بتوجيه تحذير الى عناصر الارهاب الوافد، والتي تحاول خلط الأوراق مثلما تحاول تجيير عمليات المقاومة العراقية لصالحها مثلما هي تحاول أن تجعل من الساحة العراقية ساحة لحرب الارهاب مع أمريكا وبالعكس، على اعتبار ان قيام اقوى دولة في العالم بشن الحرب على العراق وحسب تصريحات المسؤولين فيها إنما هو أمر يأتي في سياق (الحرب على الارهاب).

وكمثال على عمليات الارهاب ماحدث أخيرا من عمليات تفجير استخدمت فيها السيارات المفخخة ضد بعض الكنائس في بغداد والموصل، وهي عمليات مدانة من مختلف شرائح المجتمع العراقي وهي في نفس الوقت لا تمت لعمليات المقاومة العراقية الوطنية بأي صلة كانت، فمثل هذه العمليات الاجرامية تضاعف من قتامة المشهد الأمني في العراق وتمنح الاحتلال فسحة من الذرائع كي يواصل بقاءه وتواجده، ومثل هذا البقاء والتواجد يكون بالضد من هدف المقاومة التي تسعى الى إنهاء الاحتلال ورحيله عن العراق، وهو أمر يدركه أي مراقب للأوضاع في العراق خاصة وان مثل هذه العمليات الاجرامية تخدم أطراف الاحتلال والارهاب معا ولن نستبعد ضلوع “إسرائيل” في تلك العمليات إذا ما تفحصنا عمليات اختطاف واغتيال العلماء العراقيين.

وتظل العمليات الاجرامية الأخيرة وما سبقها من هذه الشاكلة دلالة على الجهود المضادة التي تهدف الى إبقاء العراق على هذا الوضع من غياب الأمن واستمرار الفوضى حتى يصبح الاحتلال أمرا واقعا ومرغوبا به، ولانعتقد ان الشعب العراقي راغب بانعدام الأمن وببقاء الاحتلال، بل هو تواق للاستقرار وحكم القانون والحرية والاستقلال واستعادة سيادة الوطن على وجه تام وكامل.

والصورة على هذا النحو السالف أصبحت بحاجة الى تدخل حاسم من المجتمع الدولي وقبل ذلك من الدول العربية التي لا تزال مترددة في بذل مثل هذا الجهد، الذي لن يتكلل بالنجاح حاله كحال الجهد الدولي من دون انتهاء الاحتلال بكل لبوساته وأشكاله وملاحقه.