العولمة هي طموح للانتقال من الأنماط والموديلات القديمة للتفكير والادارة والإدراك الشخصي والتفاعل بين الناس والاقتصاد العالمي الى نماذج جديدة من العلاقات على الصعد الاجتماعية والسياسـية والثقــافية والقومية, الاقليمية او العالمية. ولم يسبق للبشرية ان واجهت مثل تلك المهمة التي برزت على اعتاب الألفية الجديدة, الثالثة. وفي ميدان الاقتصاد قد تتلخص هذه المشكلة في الانتقال الى تقسيم جديد, ولكن لا الى احرار ومستعبدين, اغنياء وفقراء, لا الى شمال وجنوب, مالكــين وغـــير مالكين, بل على الاغلب الى من يملكون امكان الوصول الى المعارف وأولئــك المحــرومين منها.

ومما لا شك فيه ان العولمة تقدم امكانات كبيرة, ولكن فقط لأولئك الذين يملكون امكان الوصول الى المعارف والسيبرنيتيكا والمعلوماتية. لقد انتهى زمن العصرين الصناعي وما بعد الصناعي, بل انتهى كذلك زمن ما بعد الحداثة. تبدأ الآن مرحلة جديدة هي مرحلة المعارف والاعلام والثورة التقنية (التكنولوجية).

وفي الألفية الثالثة لن يتركز الاهتمام في شكل خاص على النمو الاقتصادي او التدهور الاقتصادي, ولا على القدرة السياسية او الاخطار السياسية, ان حق الاولوية سيكون من نصيب الذي يعرف ماذا ومتى وأين؟ اذ ان من يعرف اكثر يدير في صورة احسن كما هو معلوم للجميع.

إن الوعي القومي الذاتي, وكيان الدولة القومي, والصيغ المتعارف عليها للاستقلال والسيادة ستكون مــعرضة للعولمــة بالقــدر نفــسه, الامر الذي يستدعي نسقاً كاملاً من الردود والتصرفات الجوابية. ان نزاعاً يظهر بين السياسة التي تحمي الاصالة القومية والتصورات والمبادئ القومية للسيادة من جهة, وسياسة التكنولوجيات العالمية والادارة العالمية التي من المحتمل ان تحل محل ما هو إثني - قومي. اي ان تهديداً فعلياً قد يظهر امام العـالم.

وإذ نتحدث عن الادارة العولمية يمكن التشديد على مبدأ التدخل الانساني, اذ ان تاريخ العلاقات الدولية يبين جملة كاملة من السوابق لمثل هذا الموقف. ثمة سؤال يطرح وهو: هل ستكون الألفية الثالثة ألفية اقتصاد وثقافة وادارة عولمية عالمية شاملة؟ ام انها ستكون ألفية استبداد وإملاء وسيادة نظام سلطة واحدة على غيره من النظم؟ إن المدن - الدول, وحتى الامبراطوريات لم تقمع ابداً ولم تستبدل فردانية الشخصية, ولذا فإن الادارة العالمية لا تستطيع دفع البشر والتجمعات البشرية الى التجرد من صفاتهم الشخصية.

إن الوضع الانتقالي تشغله قوة جديدة لم تنشأ بعد في بعض البلدان, بينما هي موجودة في بلدان أخرى, ولنسمّها "القوة المدنية".

وهذه القوة تقع في مكان ما بين المدن - الدول, والتشكيلات الدولاتية القومية, والافراد. انها المجتمع المدني الذي قد يلعب دور حلقة الوصل بين الدول والتجمعات العالمية عبر اتخاذ وإقرار مشاريع تنظيم الموارد البشرية وإدارتها, مشاريع ترمي للنضال ضد المشاكل العالمية - الكونية, والكوارث, وكل المشاكل والنزاعات الاقليمية ذات الصلة بسيول الهجرة بين الدول. والمهمة الاساسية ستكون بالتحديد تكوين هذا المجتمع المدني, وتسريع عملية نشأته وتعزيز قدرته على الحياة.

يبدو انه سيكون من الواجب اقامة آلية جديدة لاتخاذ القرارات على المستوى العالمي, اي جهاز قيادي عالمي شامل, ولنسمّه الأمم المتحدة او الاسرة الدولية. ان اقامة آلية جديدة حقاً لاتخاذ القرارات لا يزال طي المستقبل. وهو ضروري لمواجهة الكوارث الكونية سواء منها الطبيعية ام السياسية المرتبطة بالتقسيم الجديد للعالم.


قضايا الحرب والسلام

إن مشكلة الحرب والسلم في الألفية الثالثة هي واحدة من اهم المشكلات. والعالم العربي له ادراكه الخاص متعدد الابعاد للعالم, ولذا فإن التطور اللاحق للحضارات القائمة حالياً يتطلب اعادة هيكلة النظام الدولي الجماعي للأمن, القائم على حق الحياة في سلام واستقرار وعدل, لا في ظل العنف. وفي هذا ثمة مفارقة, فعلى مدى العقود والقرون الماضية عشنا جميعاً في عالم حكمه العنف والتسلط. وعلى البشرية فعلاً ان تبتعد عن الظلم والمعاناة التي لا نهاية لها, علماً ان اعادة هيكلة نظام الامن امر متعذر ما لم يقم على اساس العدالة.

غلب على السياسة العالمية في العقود الاخيرة من الالفية الماضية تدخل دول في شؤون ومصالح دول اخرى تحت هذه او تلك من الحجج والتغطيات. لقد اندلعت حروب محلية وجدت لها تبريرات مختلفة, ونشبت مواجهات قبلية وإثنية ودينية لأسباب مختلفة, منها ما هو موجود فعلاً ومنها ما هو مصطنع. ان قضية الحرب والسلم التي تواجهنا جميعاً في هذه الالفية تتلخص في ان كانت البشرية ستعود فعلاً الى مثل هذه الحروب الدينية والحروب من اجل الاراضي, التي هي في حقيقة الامر غطاء للحروب من اجل المصادر - مصادر الطاقة والمياه والغذاء والوقود, اي حروب من اجل الوجود. والمثال على ذلك هو عدوان الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها على العراق الامر الذي اطلق في الحقيقة بداية الحروب من اجل السيطرة على المصادر العالمية, ولتقسيم العالم بالعنف لما فيه مصلحة الاقوياء.

كانت الايديولوجيا والدين على مدى القرن الماضي عاملين من العوامل المؤثرة على التغيرات الجيوسياسية وشن الحروب العالمية. فهل سيشهد القرن الحادي والعشرون العودة الى النزاعات والصراع من اجل مصادر الطاقة والمياه والغذاء؟ ولكي لا يحدث ذلك يتوجب على السياسة العالمية ان تخضع لاعادة تقويم, وان يعاد النظر فيها وصوغها من جديد في اوروبا وآسيا وافريقيا.

لا بد من ايجاد آلية جديدة تماماً, ونظام للتوزيع والتوازن بين الحاجات والمصادر العالمية في الولايات المتحدة الاميركية وروسيا والصين والاتحاد الاوروبي واليابان وألمانيا وغيرها. وتتطلب الحال اقامة نماذج متعددة الاقطاب للتنمية من اجل تحقيق الموازنة الضرورية بين الحاجات والمصادر الموجودة. وفي هذا الصدد على بلدان الشرق الاوسط والعالم العربي ان تحتل مكاناً وطيداً بين اللاعبين المحتملين على الحلبة العالمية. ان الشرق الاوسط والعالم العربي منطقة غنية بمصادرها, ولكنها ايضاً منطقة تطلبات ونزاعات متزايدة. ان بؤر النزاعات في اوروبا وافريقيا وآسيا, وخصوصاً في الشرقين الاوسط والادنى, ستظل تشكل تهديداً للعالم اجمع. وهذه التهديدات ليست إلا نتيجة للحروب او النزاعات الاقتصادية. وهي تمتد ابعد بكثير من الحدود القومية, وهي تولد الارهاب, وتتسبب في سيول اللاجئين, والمصائب والكوارث, وتولد عدائية عميقة بين الناس.

ونحن نرى في الشرق الاوسط بانوراما ونموذجاً لكل المصائب المحتملة. ان الشرق الاوسط منطقة تعايشت فيها على مدى قرون الديانات التوحيدية, وفيها تراث وحضارات ثرية للغاية, وعاشت فيها شعوب آسيا وافريقيا وأوروبا مع محافظتها على خصوصيتها. وهذه المنطقة بالذات تمزقها منذ اكثر من نصف قرن الحروب وإراقة الدماء بين شعوب اعتادت ان تعيش احدها مع الآخر في اجواء من التسامح والتفاهم.

وعندما زرعت في ارض الشرق ايديولوجيا معادية جلبت معها سباق التسلح, نشبت حرب مميتة بين ديانتين وشعبين: العرب واليهود. كانت ارض فلسطين ولا تزال وستبقى ارض السلام لا الحرب, ارض الشعوب الحرة لا المضطهدة, ارض المخلصين والمؤمنين المسلمين والارثوذكس وكذلك اليهود, ولن تسمح بالاقتراب منها لأولئك الذين يأتون اليها حاملين السيف. "من يأتي حاملاً السيف سيموت به" هذا ما جاء في العهد القديم.

ونحن نرى ان من الواجب اقامة نظام اقليمي جديد للأمن لا يعتمد على الارهاب وإنما على أساس حسبان الحقوق والمصالح. ان الاعتماد على الارهاب والقوة لا يمكن ان يستمر في الوجود غداً عندما سيصمد النظام القائم على الحقوق والمصالح لامتحانات الزمن. ان القضاء التام على اسلحة الدمار الشامل في المنطقة من شأنه وحده ان يضمن لشعوب الشرق الاوسط المستقبل المستقر السلمي والآمن في الألفية الثالثة.

الجانب الاسلامي
يمثل الاسلام التقليدي منظومة شاملة لقيم العلاقات بين البشر سواء بالنسبة الى كل فرد على حدة ام بالنسبة الى المجتمع بأسره. وهذه منظومة القيم بالنسبة الى العالم كله من دون اي قناعات مسبقة او استثناءات او نفور من القيم الاخرى - اي من المسيحية واليهودية - او حتى من المذاهب غير الدينية.

وبحسب فهمنا فإن الاسلام يقوم اساساً على حرية الاختيار وحق الايمان او عدم الايمان البتة. والاسلام قبل كل شيء لا يعترف بأي "نظريات", ولا يضع نفسه في اطار ايديولوجيا معينة, دينية ام دنيوية. الاسلام هو اختيار حر عند كل انسان بعينه سواء كان رجلاً ام امرأة. وهذه المقدمات او الثوابت يجب ان تعلن وتطرح مرة اخرى لا دفاعاً عن الاسلام, بل رداً على العديد من الاسئلة حول الاسلام السياسي او السياسة الاسلامية. ان اللوم والاتهامات الموجهة الى العقود الاخيرة فتاريخ الاسلام كله كان شاهداً وداحضاً لمثل هذه المحاولات.

لقد كنا بالفعل شهود محاولات فاشلة لتسييس الاسلام او أسلمة السياسة. ومع ذلك كنا شهوداً على تحديث الفكر الاسلامي على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين, الامر الذي ساعد على ان تكتشف من جديد كل نقاوة وتعدد أبعاد التعاليم الاسلامية.

إن المهمة الواقعية التي تواجه الفكر والممارسة الاسلاميين في الألفية الثالثة هي, بحسب رأينا, الاطلاع الجديد على الاسلام لا من قبل المسلمين وحسب بل من قبل اولئك الذين لا يعتنقونه. هل الاسلام مجرد ديانة للصلاة والصوم والحج؟ وهل الاسلام دين الصوفيين والدراويش؟ ام انه دين المتمردين والثوار؟ ام انه فعلاً دين يدعو الى التسامح؟ وهل يسمح بحرية الفكر وحرية الاختيار؟ وهل يتقبل مبدأ حقوق الانسان وحقوق المرأة؟ وفي تعبير ادق تحرر المرأة؟ ام انه مجرد دين الماضي؟ اذا تحدثنا في اختصار فإن الاسلام اليوم امام طريقين: الاول طريق الانعزال, والثاني طريق التكامل.

انني على قناعة عميقة بأن الاسلام في العالم العربي على سبيل المثال هو دين التكامل لا دين الانفراد والعزلة. ان احترام الآخرين جميعاً, واحترام ذوي الفكر الآخر سمة من سمات الاصول الثابتة في الاسلام. ان احترام الثقافات والمعتقدات والتقاليد لأخرى, وحرية الاختيار هي جزء لا يتجزأ من رؤية الاسلام. وهذا بالتحديد ما يفتح الطريق نحو الحوار مع الثقافات الاخرى ويلغي مبدأ تصادم الحضارات. لقد دعا الاسلام دائماً الى حوار الثقافات الامر الذي يعد خاصية من خواص التراث الاسلامي والمعارف الاسلامية.

لقد غدت هذه المعارف وسيلة لانتقال الفكر الاغريقي - الروماني والفلسفة والعلم الى اوروبا الحديثة, واذا كان ارسطو المعلم الاول في اليونان القديمة فإن المفكر والفيلسوف العربي الفارابي كان المعلم الثاني. ولقد اسهما مع غيرهما من المفكرين في قسط لا يقدر بثمن في الثقافة الاوروبية المعاصرة, وكذلك في الطب والكيمياء والفيزياء وعلم الفلك وعلم الاجتماع.

عاشت في المجتمع الاسلامي, في عهود مختلفة, شعوب اوروبية وآسيوية وشرق اوسطية وافريقية متوسطية برز فيها فلاسفة ومفكرون وعلماء. وكان المجتمع الاسلامي على الدوام مجتمعاً متعدد القومية واللغة. ان الاسلام هو دين شعوب مختلفة يقوم على تنوع الثقافات والأمم.

ان مبدأ الولاء في الاسلام مبدأ واضح في حد ذاته, وهذا يعني في الدرجة الاولى الولاء المدني التام للوطن, وهو ايضاً الولاء الروحي لله الواحد والايمان بقدراته.

اما المسلمون في البلدان غير الاسلامية فهم مواطنون اوفياء مخلصون لبلدهم ووطنهم. وما من احد يدعوهم ليكونوا موالين لأي بلدان او دولة اخرى. وعند المسلمين نحن جميعاً, مسلمين او مسيحيين او يهوداً, اخوة بطبيعتنا البشرية. ان مصيرنا المشترك يدعونا الى اداء مهمات جديدة تواجه الجميع في الالفية الثالثة, مهمات واختبارات عالم جديد تحيط به من كل جانب عمليات العولمة في السياسة والثقافة والمعلوماتية والسيرنيتكا.

وثمة مهمة اكثر جدية تواجهنا في الألفية الثالثة التي بدأت, وحل هذه المهمة يتطلب حركة دينامية وجماعية للبشرية كلها عن طريق تكامل الأمم والشعوب. اي تحديداً تكامل الثقافات, لا تصفيتها. وهذا ما يستدعي التقاء العديد من الافكار والمبادرات والمساعي, التقاء الجميع بلا استثناء, شعوباً وأفراداً, والتحرك نحو امكـان اكثر انفتاحاً وحرية ومساواة للوصول الى مصادر المعرفة والازدهار.
وهذا ما يقتضي بالضرورة ايضاً تحرك البشرية بأسرها على طريق اقامة السلام الشامل والآمن على قاعدة التكافؤ والالتزام المتبادل, لا على قاعدة القوة كما هو الامر الآن.

* نائب مدير معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية, والنص من محاضرة ألقاها في المؤتمر الدولي "التنوع الثقافي: تجربة روسيا والمشرق العربي" الذي نظمه البيت اللبناني - الروسي بالتعاون مع منظمات لبنانية وروسية وأوروبية وجرت اعماله اخيراً في فندق الشيراتون - بحمدون (لبنان).