في الولايات المتحدة كشفت لجنة التحقيق التي شكّلها الكونغرس أن جهاز المخابرات الـ (سي.آي.إيه) كان مقصّراً في تجميع المعلومات عن حقيقة تسلّح نظام صدام حسين. وأكدت اللجنة في تقريرها الرسمي أن ما حصل عليه هذا الجهاز من معلومات عن أسلحة الدمار الشامل لم يكن فقط مبالغاً فيه، بل كان غير صحيح. وبالتالي فإن مسؤولية القرار السياسي بشنّ الحرب على العراق تقع على عاتق جهاز المخابرات وليس على عاتق الرئيس جورج بوش.
وفي بريطانيا، كشفت لجنة التحقيق القضائية برئاسة اللورد باكلر عن أن جهاز المخابرات (أم ـ 6) أساء تقدير المعلومات التي زوّد الجهاز بها رئاسة الحكومة (10 داوننغ ستريت) بشأن امتلاك نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل وبشأن إمكانية استخدام هذه الأسلحة، حتى ضد بريطانيا نفسها خلال 45 دقيقة فقط!.. وبالتالي فإن مسؤولية القرار السياسي بمشاركة بريطانيا للولايات المتحدة في الحرب على العراق تقع على عاتق هذا الجهاز وليس على عاتق رئيس الحكومة طوني بلير.
المهم في الأمرين هو:
أولاً: اعتماد صاحب القرار السياسي في الولايات المتحدة وبريطانيا على المعلومات التي تزوّده بها أجهزة المخابرات.
ثانياً: دور معلومات هذه الأجهزة المخابراتية في صناعة القرار السياسي.
ثالثاً: فشل الأجهزة المخابراتية في تجميع المعلومات الصحيحة وفي تقويمها بالشكل الصحيح، أو تضخيمها أو حتى اختلافها للتأثير على صناعة القرار السياسي.
رابعاً: مسؤولية إعلان الحرب على دولة ما على أساس معلومات خاطئة سواء عن جهل أو عن سابق تصوّر وتصميم.
ربما يكون في استطاعة كل من بوش وبلير أن يغسل يديه من الدماء التي تتدفق مدرارةً في العراق منذ عام ونصف عام تقريباً. فالرئيسان يظهران الآن أو يتظاهران بأنهما تعرّضا للتضليل، وأنهما استُدرجا الى اتخاذ قرار الحرب بناء على معلومات كاذبة أو مغلوطة.
لا ينفع الآن التذكير بالبيانات التي كانت تصدر عن فريق المفتشين الدوليين والتي كانت تؤكد أنه على الرغم من جدية البحث والتنقيب (حتى في غرفة نوم صدام حسين) لم يعثر المفتشون على أي أثر لأي نوع من أنواع أسلحة الدمار الشامل.
ولا ينفع كذلك التذكير بالمرافعات المثيرة أمام مجلس الأمن وفي الإعلام الأميركي والبريطاني (خصوصاً التلفزيوني) حول وجود شاحنة هنا.. أو برميل هناك.. أو حفرة هنالك يُعتقد أنها مصنع أو مخزن لأسلحة الدمار التي يجري البحث عنها.
الذي ينفع هو توفير إجابة صحيحة عن السؤال الآتي: من المسؤول عن شن حرب غير مبررة؟.. من المسؤول عن سقوط عشرات الآلاف من الضحايا العراقيين؟.. من المسؤول عن سقوط أكثر من ألف قتيل أميركي وبريطاني وسواهما من قوات التحالف؟.. من المسؤول عن تدمير العراق؟.. ومن المسؤول عن بعثرة الوحدة الوطنية العراقية؟.. من المسؤول عن تحويل العراق الى بؤرة للإرهاب الذي كان يفترض أن تؤدي الحرب عليه الى استئصاله من جذوره؟.. ومن المسؤول عن تعميق هوّة العلاقة بين العالم العربي والإسلامي من جهة، والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة ثانية؟
من المفترض بعد أن تبيّن خطأ المعلومات التي بُني عليها قرار الحرب، أن تبادر كل من واشنطن ولندن الى الاعتراف بالخطأ. والى تقديم الاعتذار. والى تعويض المتضررين، علماً بأن العالم كله، وليس العراق وحده، تضرر من جراء هذه الحرب. ومن المفترض أيضاً أن يترجم الإقرار بالخطأ بالانسحاب من الأراضي العراقية، وبتسليم ملف عراق ما بعد الحرب الى الأمم المتحدة فعلاً لا قولاً؛ ومن المفترض كذلك أن يتعاون الخاطئون المحتلون مع المنظمة الدولية لإجراء انتخابات عامة في العراق بأسرع وقت تنبثق منها سلطة وطنية جديدة.. تضع حداً للاحتلال وتعبّر عن مصالح الشعب العراقي المنكوب.
ففي الحسابات الأخيرة، سواء اكان المسؤول عن الخطأ بشن الحرب على العراق السلطة السياسية أو السلطة الاستخباراتية، فإن النتيجة واحدة، وهي أن الخطأ الكارثي قد حصل. وأن الضحايا قد سقطوا.. وأن الدمار قد حلّ وانتشر. للولايات المتحدة، بما لديها من مؤسسات دستورية تقوم بعمليتي المساءلة والمحاسبة، أن تعالج موضوع المسؤولية. ولبريطانيا أيضاً، بما لديها أيضاً من هذه المؤسسات، أن تحدد المسؤولية وأن تقرر كيف تتعامل مع صاحبها. ولكن المسؤولية شيء والضرر شيء آخر.
من حسنات الأنظمة الديموقراطية المعتمدة في الولايات المتحدة وفي بريطانيا أنها تصلح نفسها بنفسها من خلال الشفافية والمساءلة والمحاسبة وبالتالي من خلال آلية التغيير. ولكن من يصلح الخراب الذي حلّ بالعراق وأهله؟.. ومن يدفع ثمنه؟ وكيف؟
لا يجوز التهرّب من مواجهة هذا الواقع المفجع بمجرد الادعاء "لقد حررنا العراق من نظام صدام حسين". صحيح أن العراق تخلّص من هذا النظام الدموي البشع، ولكن ما كانت الحرب على العراق أساساً من أجل ذلك.
فالشعارات والتبريرات التي ارتفعت في لندن وواشنطن قبل وأثناء وبعد الحرب كانت تصبّ كلها على أسلحة الدمار الشامل التي لم يعثر لها على أثر.. وعلى علاقة ذلك النظام بأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، وهو أمر ثبت أيضاً أن لا أساس له من الصحة على الإطلاق.
ان الحرب على العراق هي جريمة بكل المعايير. وعلى الذين ارتكبوا هذه الجريمة ضد الإنسانية أن يدفعوا الثمن.. وأن يعوضوا الضحايا..