تلقت الولايات المتحدة ضربة موجعة يوم‏11‏ سبتمبر‏2001,‏ ومازالت تعاني توابع هذه الضربة‏..‏ ليس بإمكان إدارة بوش ادعاء أن العملية قد انتهت‏,‏ وأن النظام الأمريكي قد استعاد هيبته ومكانته‏,‏ رغم أنه يهيمن علي نظام عالمي أحادي القطبية‏,‏ وأن قوته العسكرية والاقتصادية المنفردة تفوق حاصل جمع القوة العسكرية والاقتصادية لبقية دول العالم مجتمعة‏!..‏
وقد بررت إدارة بوش غزو أفغانستان‏,‏ فغزو العراق‏,‏ بأن نظام طالبان في أفغانستان يؤوي أسامة بن لادن والمنظمة الارهابية المعروفة بـ القاعدة‏..‏ وأن العراق يخفي أسلحة للدمار الشامل وعلي صلة بـ القاعدة‏..‏ وفي ضوء هذه الافتراضات‏,‏ استباحت واشنطن لنفسها أن تشن حربا علي العراق بدون موافقة مجلس الأمن‏..‏ ودون توفيقها في العثور علي هذه الأسلحة من قبل هيئة المفتشين التابعين للأمم المتحدة المختصين في هذا الشأن‏..‏ وقد وافق عدد من الدول‏,‏ منها بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا وغيرها‏,‏ علي مسايرة أمريكا في هذا التوجه‏..‏

وقد فشلت كل محاولات العثور علي أسلحة للدمار الشامل لدي العراق‏..‏ كما فشلت كل محاولات اكتشاف علاقة تربط النظام العراقي بـ القاعدة‏..‏ وهكذا خاضت أمريكا الحرب ضد العراق بمقتضي مبررات مغلوطة‏..‏
قد تقول بعض العواصم الغربية إننا نقطع بأن صدام يملك أسلحة للدمار الشامل‏,‏ ولو لمجرد أننا قد زودناه بهذه الأسلحة طوال السنوات التي شهدت الحرب العراقية‏/‏ الايرانية؟‏..‏ معني ذلك أن هذه العواصم تستمد يقينها من كونها قد مدت صدام بهذه الاسلحة فعلا‏..‏ ولكن كيف ينتظر من هذه العواصم اعترافها بارتكابها هذه الجريمة؟‏..‏ إنها‏,‏ من جانب‏,‏ بحاجة الي ترتيب نتائج علي كونها قد مدت صدام بنوعيات معينة من الأسلحة‏..‏ وهي من جانب آخر لا تستطيع أن تعترف بأنها قد مدته بهذه الأسلحة‏..‏ والسؤال الجوهري المطروح هنا هو‏:‏ هل من الممكن أن تستعيد الحرب مشروعيتها‏,‏ ولو بأثر رجعي‏,‏ بعد تسليم أطراف عديدة بأن الحرب التي شنتها أمريكا ضد صدام حسين لم تكن تستند الي أي أساس من المشروعية؟‏..‏

قالت لندن‏,‏ وأيضا واشنطن‏,‏ تبريرا للحرب‏,‏ خيرا فعلنا بتخليص العراق من طاغية مستبد‏!‏ ولكن‏,‏ هل من الجائز خوض حرب عدوانية ضد حاكم مستبد‏,‏ في غياب وجود أدلة تدينه بمقتضي القانون الدولي القائم؟‏..‏
صحيح أننا نشهد الآن محاولات مستميتة لإجراء مصالحات بين الأطراف التي اتخذت مواقف متعارضة من قضية الحرب علي العراق‏..‏ ولكن‏,‏ هذا يطرح سؤالا مهما‏,‏ هل من الممكن إزالة آثار الحرب‏,‏ والتوصل إلي حل منصف لقضية العراق‏,‏ عن طريق مخارج تبحث عن حلول وسط‏,‏ تتنكر للشرعية الدولية؟‏...‏
لقد انقسم مجلس الأمن‏,‏ قبل خوض الحرب علي العراق‏,‏ إلي فريقين‏,‏فريق قاده بوش‏,‏ ونادي بعدم انتظار قرار من مجلس الأمن‏,‏ وشن الحرب في الحال انطلاقا من إيمان راسخ بأن العراق يملك أسلحة للدمار الشامل‏,‏ حتي مع عدم اكتشافها‏..‏ وفريق طالب بالتريث وعدم التعجل في الحكم‏,‏ ومواصلة عمليات التفتيش تحت مظلة الأمم المتحدة‏..‏ غير أن الولايات المتحدة غضت النظر عن مجلس الأمن وقررت خوض الحرب دون إبطاء‏,‏ من منطلق أن هذه الأسلحة سيعثر عليها حتما‏,‏ إن عاجلا أم آجلا‏.‏

وقفة
وهنا كان لابد من وقفة‏..‏ كيف يجري تصحيح المسار؟‏..‏ هل يكون بالتخلي عن خوض الحرب المنفردة والعودة إلي الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟‏..‏
أم يكون المخرج حلا وسطا توفيقيا‏,‏ فيه استعانة‏,‏ ولو في الظاهر بمجلس الأمن‏,‏ مع بقاء القرارات المحورية في أيدي الإدارة الأمريكية علي وجه التحديد؟‏..‏
والحقيقة أن كل الأطراف الدولية كانت تسعي إلي مصالحة‏..‏ لا فريق الدول التي ضمت في مجلس الأمن فرنسا وألمانيا وروسيا والصين أرادت مواصلة الخلاف مع أمريكا وبريطانيا وغيرهما إلي غير أجل‏,‏ ولابوش وجد نفسه في مركز يؤهله للاستمرار في موقف معارض للاغلبية في مجلس الأمن‏..‏ خاصة وقد ثبت انه قد شن الحرب دون مبرر‏..‏ فكان الحل توفيقيا‏,‏ لامبدئيا‏..‏ لقد سعي بوش إلي سياسة تحفظ للولايات المتحدة سلطة القرار فعليا‏,‏ مع نقلها الي الأمم المتحدة في الظاهر أكثر منه في الحقيقة‏..‏

لقد صدر إعلان بأن السيادة قد عادت إلي العراق في يوم‏30‏ يونيو المنصرم‏..‏ ولكن لم يصاحب هذا الإعلان جلاء القوات الأمريكية‏,‏ بل ظلت كما هي‏,‏ وربما حتي زاد عددها في عدد من المواقع‏..‏ وظلت هذه القوات تحت قيادة جنرال أمريكي‏,‏ لاسيطرة للحكومة العراقية الانتقالية عليها‏..‏ فكيف الحديث عن السيادة والاستفلال في ظل احتلال عسكري مكشوف‏,‏ لايكتنفه إبهام أو لبس؟‏..‏
قد يقال إن الحكومة الانتقالية العراقية قد أبدت موافقتها علي بقاء هذه القوات في العراق‏..‏ غير أن أعضاء هذه الحكومة الانتقالية هم أنفسهم أعضاء معينون‏,‏ وليسوا نتاج انتخابات حرة‏,‏ نزيهة‏,‏ تكسبهم شرعية‏..‏ وعلي أي الأحوال لم يكن العراق مهيأ لاجراء انتخابات في‏30‏ يونيو الماضي‏..‏ فلم تجر انتخابات نزيهة في تاريخ العراق كله‏,‏ سواء قبل ثورة تموز أو بعدها‏..‏ وحتي قوائم الناخبين أنفسهم ناقصة ومشوهة‏,‏ ولابد من أشهر لضبط هذه القوائم‏..‏ وهكذا يتضح أنه كان هناك مأزق‏..‏
من هنا‏,‏ لم يكن هناك مفر من مرحلة سيادة منقوصة‏,‏ مرحلة فيها إعلان عن السيادة والاستقلال‏,‏ وهو إعلان يجافي الحقيقة لأن قوات الاحتلال مازالت مرابطة في العراق‏..‏ بل أكثر من ذلك‏,‏ فإن تحاشي الجانب الأمريكي إطلاق اسم علي قواته في العراق هو لتحاشي اعتراف صريح باستمرار الاحتلال‏..‏

سؤال
ولذلك نسأل‏:‏ أليس من الأفضل نقل السلطة في العراق ـ طوال المرحلة الانتقالية ـ من الولايات المتحدة إلي الأمم المتحدة‏,‏ بدلا من نقلها الي حكومة عراقية مؤقتة تستمد وجودها من الولايات المتحدة‏,‏ وهي حكومة تفتقر الي الشرعية‏,‏ ولو لمجرد أن وجودها يستند الي قوات الاحتلال التي لم تبارح العراق قط؟‏..‏
هل علينا أن نسلم حتما بأن موازين القوي لا تسمح بنقل السلطة من الولايات المتحدة إلي الأمم المتحدة‏,‏ وأن تولي الأمم المتحدة المسئولية مقبولةفقط في حدود معينة‏,‏ وفيما لا يخالف سياسة واشنطن؟

ثم هناك سؤال آخر‏:‏ هل من الجائز اعتبار أن المسئولين عن جمع المعلومات‏,‏ وليس أصحاب القرار علي رأس الدولة‏,‏ هم الذين يتحملون مسئولية الاخطاء التي ارتكبت؟‏..‏ هل القرار ـ في جوهره ـ يتعلق بالمعلومات‏,‏ ومدي دقة رصدها‏,‏ أم يتعلق بتقدير سياسي للمعلومات المتاحة فعلا؟‏..‏ ألم يكن عدم امتلاك صدام أسلحة للدمار الشامل احتمالا لم يكن من الممكن استبعاده كلية؟‏..‏ ألم يكن عدم وجود علاقة بين القاعدة ونظام صدام مسألة واردة هي أيضا؟‏..‏ من تتعين تحميله مسئولية مثل هذه الأخطاء؟‏..‏ هل المساءلة والمسئولية تقتصران علي الأجهزة الفنية‏,‏ ولا محاسبة لأصحاب القرار السياسي‏..‏ إلا بالرجوع الي الشعب‏,‏ وإجراء انتخابات عامة؟‏..‏
من الواضح‏,‏ سواء تحدثنا عن بريطانيا أو عن الولايات المتحدة‏,‏ أن أجهزة المخابرات هي التي جري تحميلها مسئولية خطأ التقدير‏..‏ أي أن الخطأ أرجع إلي أسباب تتعلق بجهات فنية‏,‏ لا جهات سياسية‏..‏ وبدت الصورة وكأنما أجهزة المخابرات أرادت أن ترضي أصحاب القرار‏,‏ بدلا من أن تتقدم بصورة موضوعية تمكن صاحب القرار من أن يتخذ قراره متحررا من أي دافع شخصي‏..‏

وقد ميزت التقارير بين الأخطاء التي وقعت‏,‏ وبين نيات القادة الذين اتخذوا هذه القرارات‏..‏ وقد برئت القيادة تماما من أية نيات شخصية مغرضة‏,‏ علما بأن التعليق الرئيسي الذي صدر بعد اعتقال صدام حسين هو أن إزاحته من الساحة مسألة لابد أن يستحسنها كل الأطراف المعنية‏!..‏
إن الحرب ضد الارهاب حرب غير تقليدية‏..‏ ليست حربا بين جيوش‏..‏ ولا هي تشن بالطرق المعتادة‏..‏ إنها في أغلب الأحوال تشن دون إعلان‏..‏ وكثيرا ما يكون ضحية العملية طرف أو أكثر استهدف بطريقة تحكمية‏..‏ فــ محور الشر‏,‏ علي سبيل المثال‏,‏ يتشكل في نظر واشنطن من بلدان تختلف حسب تطورات الحالة السياسية‏..‏ أمريكا تهدد سوريا‏..‏ ثم تعود وتهدد إيران‏..‏ ثم حزب الله‏..‏ إلخ‏..‏ ومثل هذه التهديدات يتيح للرئيس الأمريكي فرصة واسعة للمناورة‏..‏ ذلك أن ضوابط ومقررات قد رفعت‏,‏ ولم تحل ضوابط ومقررات محلها‏....‏

ومسألة لابد لنا أن نتأملها هي أن بوش يعلن حالة الطواريء في عدد من الولايات الأمريكية‏,‏ مستغلا الخوف الذي يثيره شبح الارهاب ليعزز مركزه الانتخابي ضد المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية جون كيري‏..‏ من مصلحة بوش أن يهول من خطر الارهاب لتبرير استمرار بقاء القوات الأمريكية في العراق‏,‏ واللجوء الي إجراءات استثنائية وحلول توفيقية تجنبه الحاجة إلي موقف مبدئي في تجاوز المأزق الراهن الذي يعم الشرق الأوسط‏.