عمّان ـ موسى برهومة: يعتقد أستاذ الأدب الإنجليزي محمد شاهين بأن المخزون المعرفي لدى المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد أكبر وأشد اتساعاً من أن تحيط به الكتابة، تماماً كبيتهوفن الذي كان لديه مخزون من الموسيقى عجزت النوتة الموسيقية عن الوفاء لها أو التعبير عنها. وكجزء يسير من الوفاء لصاحب (الاستشراق) راح شاهين، وهو ناقد أردني ومتخصص مرموق في الأدب الإنكليزي، يجمع بين دفتيْ كتاب مجموعة من المقالات والحوارات التي أنتجها سعيد في فترات متباعدة ليؤكد أن "منجزات إدوارد سعيد لم تخضع للتعاقب الزمني الذي يخضع لناموس التطور والنشوء والارتقاء الذي تحكمه العادة لدى الحديث عن أصحاب المنجزات من أصحاب الفكر البارزين". ويؤكد شاهين في الكتاب، الذي حرره وكتب مقدمته وصدر أخيراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت تحت عنوان (إدوارد سعيد : مقالات وحوارات) على أن صديقه الأثير سعيد "ولد شامخاً ومبكراً"، وأنه "تميز منذ البداية كصاحب فكر جديد أصيل".
ومن خلال قراءته المقالات الأولى لإدوارد سعيد يرى شاهين أن تلك المقالات تكشف وعياً مبكراً لدى صاحب (الثقافة والإمبريالية) على أحوال الأمة العربية، وبيان العلاقة الهشة التي تميزت بها المواجهة بين الشرق العربي والغرب، والتي يعزوها سعيد الى "غياب التكافؤ المطلوب بين طرفين أحدهما قوي والآخر ضعيف، أحدهما بل هوية محددة، والآخر يحمل هوية الهيمنة، أحدهما لا يعرف كيف يتعامل مع خصمه، والآخر يعامل الضحية بنمطية واضحة له دون أن تكون كذلك للضحية نفسها وهكذا".
ويرى شاهين أن سعيد لا ينحو باللائمة على الغرب في هذه المعادلة المختلة "بل إنه يبيّن بوضوح أن العرب هم أصحاب المسؤولية التي يمكن أن نسميها علاقة مَرَضية تملي علينا القيام بما هو مطلوب منا القيام به تجاه أنفسنا".
وبخلاف ما شائع من أن فكرة الاستشراق تولدت لدى سعيد منذ نشر كتابه ذائع الصيت (الاستشراق) في العام 1979، فإن شاهين يؤكد بأن "فكرة الاستشراق قد ولدت في بداية السبعينات إن لم نقل قبل ذلك". ويعتمد الناقد الأردني في رأيه هذا على مقالة لسعيد بعنوان (التمنع والتجنب والتعرف) نشرت مترجمة في مجلة (مواقف) البيروتية العام 1972 وفيها يلمس سعيد، كما يقول شاهين "هشاشة واقع الثقافة العربية إزاء الاعتداء الأجنبي" ووقوف المثقفين عاجزين عن تقديم البديل.
ولا ينكر سعيد على المثقفين العرب وعيهم المأزق، لكنه يأخذ عليهم وقوفهم حيارى إزاء واقعهم المتردي، كما يسجل عليهم "تجنبهم الخوض في معرفة الذات العاجزة، وتمنعهم عن تقديم البديل".
وفي إطلالة مبكرة على موضوعة الاستشراق يؤكد سعيد أن "الغرب نظر الى العرب كشيء للاستهلاك، فقد جعل الغرب من العرب مادة تستهلكها الثقافة العدائية النهمة. كان اكتشاف الغرب للثقافة العربية حدثاً يتوقف استمراره على اهتمام الغرب بها، ولقحت الثقافة العربية ببعض مظاهر الثقافة الغربية التي بذرت في كل مكان وشملت المجتمع بأكمله". ويرى سعيد أن هذه "المظاهر التي أنتجت الثقافة العربية ما يماثلها كما تعكس المرايا الصور، أنتجت، على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية، مؤسسات تفتقر الى العمق وتفتقر، بعبارة أدق، الى الجذور، لهذا نلحظ اليوم غياب أي تقليد عربي راسخ من تقاليد الحكومة الحديثة أو الإصلاح الاجتماعي أو الفكر الاقتصادي والسياسي. كل شيء يبدو عابراً وكأنه طرْق على سطح لين لزج تحته ارتجاج واضطراب هائل غامض يبدو اليوم في صورة، وفي اليوم التالي في صورة مختلفة تماماً".
تأملات
وفي مقالته الثانية (تأملات حول البداية) المنشورة في (مواقف) العام 1978 التي نقلها الى العربية كمال أبو ديب وياسر الداغستاني، يُعمِل سعيد النظر الفلسفي في فكرة البداية، لافتاً الى أن "تركيب الجملة المفسرة لمعناها والقائلة بأن أحدنا يبدأ عند البداية، معتمد على قابلية كل من العقل واللغة على أن يعكسا نفسيهما، ويتحركا من الحاضر الى الماضي ثم الى الحاضر ثانية، من وضع معقد الى بساطة سالفة، ثم الى التعقيد من جديد، من نقطة الى أخرى كأنهما يتحركان داخل دائرة. والقدرة على القيام بمثل هذه الأشياء هي ما يجعل الفكر مهموماً وقريباً من حالة الغموض في الوقت نفسه".
كما أن العقل الإنساني يريد شكلياً "أن يتصور نقطة إما في الزمان أو المكان تشير الى بدية الأشياء كلها (أو على الأقل الى مجموعة محددة من الأمور المركزية) ولكن العقل يغامر كما غامر أوديب بإمكانية أن يكتشف عند تلك النقطة أين ستنتهي الأشياء كلها أيضاً، إذ تكمن وراء هذا الاكتناه المنظم الشكلي حاجة عاطفية وخيالية للوحدة، حاجة لأن نستوعب ما هو في الواقع عدد من الظروف المشتتة وأن نضعها في نوع من النظام الحق المتسلسل أو الأخلاقي أو المنطقي".
وفي مقابلة أجريت معه العام 1992 ونقلها الى العربية بكر عباس، يرى إدوارد سعيد أن التحول من كتابه (البدايات) الى كتابه (الاستشراق) لم يكن في وجهة النظر الأدبية بقدر ما هو في وجهة النظر النصية، وفي هذا السياق يقول: "لقد أثر فيّ في (الاستشراق) كيف أن الناس ما أن يقرأوا شيئا حتى يخرجوا للبحث عنه، وهذا ما أسميه "الموقف النصي"... غير أنني أخذت الآن أغير فكري بعض الشيء. لقد شعرت منذ سنوات عدة بطريقة ساذجة غير متحفظة أنه نظراً للقدر الهائل من سوء النية والتدليس العقائدي الذي يصور الكتابة في نوع معين من العلوم الاجتماعية، وكذلك الكتابة في التاريخ، لا بد أن هناك شيئاً منعشاً وجذاباً جداً في الكتابة حول مواضيع أدبية بحتة... أظن أنني أصبحت أنظر نظرة أكثر اعتدالاً الى العلاقة بين الكتابة وأشكال الكتابة الأخرى".
أما في المقابلة التي تمت في تموز(يوليو) من العام 1999 في نيويورك وأجراها مصطفى بيومي وأندرو روبن، ونقلها الى العربية صلاح حزيّن، فيتناول سعيد الظروف التي رافقت علمه بإصابته بمرض اللوكيميا في أيلول (سبتمبر) من العام 1991: "عرفت أن سيف ديموكليس (نسبة الى الأسطورة الرومانية) مسلط فوق رأسي. فجأة اتضح لي أنني سوف أموت".
وكرد فعل فوري خطرَ في بال صاحب (العالم، النص، الناقد) أن يذهب الى مكان آخر أكثر هدوءاً من نيويورك "ولكن تلك الفكرة لم تعمر طويلاً، ثم انبثقت لديّ فكرة من بين ما خلفه موت والدتي التي رحلت في العام 1990 فبدأت أفكر في الكتابة عن سنوات حياتي الأولى والتي كانت في معظمها مرتبطة بها. وبعد عامين ونصف العام، في آذار (مارس) 1994 بدأت أكتب مذكراتي".
الانضباط
ويصف سعيد كتابته مذكراته في أثناء فترة العلاج، حيث تميزت الكتابة بنوع من الانضباط: "استخدمت وقت الصباح للكتابة ولمتابعة ذكرياتي لإعادة خلق زمن كنت قد فقدته وأفقده أكثر وأكثر كل يوم، وكنوع من وضع تصور لشكل الكتاب حاولت أن أستدعي الأماكن التي تغيرت بلا عودة في حياتي في مصر وفلسطين ولبنان. كنت خلال تلك الفترة زرت تلك الأماكن، فقد عدت في العام 1992 الى فلسطين لأول مرة منذ خمسة وأربعين عاماً، كما ذهبت الى لبنان في أول زيارة لي منذ الغزو الإسرائيلي في العام 1982".
ويتابع سعيد متناولاً كتابه "خارج المكان"، الذي ضم مذكراته بأنه حاول في كتابه هذا أن يحرر نفسه "من المسؤولية التي كانت، سواء أحببت ذلك أم لا، تفرض عليّ كلما كتبت عن الشرق الأوسط... كتبت "خارج المكان"، في ظل كمّ من المعاناة، فقد كنت مريضاً معظم الوقت، لذا فإنني كنت أكتب بضع جمل ويكون عليّ بعد ذلك أن أنهض وأتناول دواء ما أو أن أستلقي. كانت كتابة "خارج المكان"، تجربة مختلفة كليا بالنسبة لي. لم أكن أحاول مخاطبة جمهور، على الرغم من فكرة مخاطبة جيل أبنائي كانت هناك... كانت المذكرات محاولة لوصف ماضيّ الخاص بي.. لقد بث نوع من الحزن الفيرجيلي (نسبة الى الروماني فيرجيل) الحياة في أشياء كانت قد مضت. وفي صورة ما، كان "خارج المكان" نوعا من التأمل البروستي (نسبة الى الروائي الفرنسي مارسيل بروست)".
ويضم الكتاب فضلاً عن ذلك، مقالة في الموسيقى والأدب والتاريخ كانت نشرت ضمن مجلد تذكاري لنخبة من الأدباء والمفكرين صدر ضمن منشورات دار الغرب الإسلامي العام 2000، وكلف شاهين المترجمَ بكر عباس لنقلها الى العربية، حيث ذكر عباس (وهو شقيق الناقد الراحل إحسان عباس) لشاهين بأن مقالة سعيد تلك كانت أصعب نص ترجمه في حياته.
في هذه المقالة المعنونة بـ"من الصمت الى الصوت" يتنقل سعيد بين أقاليم الموسيقى والأدب والتاريخ، ويتوقف عند الموسيقيين العالميين فاغنر وبيتهوفن، حيث يصف فاغنر السمفونية التاسعة لبيتهوفن بأنها "خلاص الموسيقى" ويمضي سعيد في تصوراته حول الموسيقييْن، حيث يشير الى أن فاغنر "بيّن أن الموسيقى، على الرغم مما تتصف به من طلاقة وقدرة على التعبير، فإنها تخضع للزمن والإقفال، أي للصمت. وللتغلب على الصمت وجعل العبارة الموسيقية تمتد الى ما بعد المحط الأخير أو النغمة الختامية، فتح بيتهوفن دنيا اللغة التي تمكنها طاقتها على استيعاب النطق الإنساني الصريح من أن تقول بنفسها أكثر مما تستطيع الموسيقى قوله. ومن هنا وجد فاغنر الدلالة الهائلة لثوران الصوت والكلام في النسيج الآلي للسمفونية التاسعة، فما رآه هناك كان تجسيداً إنسانياً للغة تتحدى صمت النهاية والموسيقى نفسها".
فإذا كانت السيمفونية التاسعة، كما أورد سعيد على لسان فاغنر، تتحدى صمت النهاية، فإن منجزات المفكر الفلسطيني تتحدى غيابه الفيزيائي وتطل شاهقة بروحها الإنسانية ولسانها الكوني، وقدرتها على إثارة جدل لا ينتهي، على الرغم من أن غياب إدوارد جعل العالم العربي وأميركا "أكثر فقراً" على حد تعبير الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان.
- آخر تحديث :
التعليقات