بيروت من نسرين الطويلة: لا يمكن ان تفصل بين جوزف حرب والقصيدة، فالشعر يلهو بثقة بين مفرداته، وتجده دائم الحضور في حديثه وأفكاره ونظراته ومقاربته اي فكرة او قضية. تلقاه فتشعر بأنك دخلت القصيدة او انها دخلتك, فكأنك تمر في عمق الحياة حيناً، قبل ان تعود مرة اخرى الى تفاصيلك اليومية فتطفو على السطح مجدداً.
جوزف حرب، رئيس اتحاد الكتاب اللبنانيين، شاعر مرهف وشفاف كتب بالفصحى والعامية وغنت فيروز عدداً من قصائده، كما كتب مجموعة من الاعمال الدرامية للإذاعة والتلفزيون, «الرأي العام» التقته وكان هذا الحوار:
يرتبط اسمك في اذهان الناس بصوت السيدة فيروز وبجو من الحزن والشجن، فهل تملك هذه الصورة فعلاً ام انها تظلمك؟
ـ أحمد شوقي كان امير الشعراء والشاعر الاكبر في الفترة التي عاش فيها، ولكن شهرته اتسعت وبلغت فئة اكبر من الناس حين غنى محمد عبد الوهاب من قصائده, فالقصيدة حين يغنيها فنان او فنانة كبيرة، تحمل اسم شاعرها الى مجالات اوسع، مع ان السيدة فيروز لم تغن قصائد من دواويني كما غنى عبد الوهاب لشوقي، وانما ادت شعراً كتبته اصلاً ليغنى.
اما بالنسبة الى الحزن، فلا شك في ان دواويني تحمل مسحة قريبة جداً من الشجن، تفرضه عليَّ نظرتي للانسان في عموما، فأنا ارى العالم جميلاً جداً ولكن حزيناً جداً مفعماً بالأمل وباليأس معاً, احلامه كبيرة ولكنه مصاب بأجنحته, ولا يمكن للانسان ان يخلق عالماً خاصاً به لينغلق داخله ويفرح من دون سبب، فأنا انتمي للانسان في اي مكان وأنتمي للروح البشرية ولأحلام الشعوب، وهذه كلها امور حزينة ومصابة باليأس، وبالتالي فالشجن امر طبيعي وليس حالاً مستغربة.
ولكن ثمة من ينتقد هذا الاحتفال بالحزن لدى الشعراء ويعتبره نوعاً من المبالغة؟
ـ واضح تماماً على صعيد الواقع وفي الحس الشعري والمفهوم الفلسفي اننا لم نأت الى الحياة لنفرح, ربما نحاول فقط ان نكون اقل حزناً ولكننا لا نفرح, فبماذا نفرح وبأي انتصار؟ الانسان لا يزال مصلوباً منذ بداية البشرية، الحرية مقهورة، والقمح كثير في الارض والجياع اكثر, ثم ان طبيعة الحروب والأطماع ومفهوم الموت والحب والعدالة والسلام، كلها امور لم تعش اعياداً او احتفالات عبر التاريخ, انه تاريخ في المرارات والانكسارات، وعظمة الانسان تكمن في استمراره لانه لا يملك خلاصاً آخر, فيبدو انه مشروع حسرات كبيرة، وفرحه غير نابع من انتصاره وانما من قدرته على الاستمرار في عذاباته، ولعل هذا الفرح الوحيد الذي قدمته الحياة اليه.
ربما التأمل في عمق الحياة يساعد في إدراك هذه المعادلة، فيصبح الوعي واحداً من مسببات الحزن؟
ـ بالتأكيد، لانه يجعل الانسان يدخل اماكن اكثر عمقاً، وظلاماً اكثر كثافة, فالانسانية محكومة منذ بداية التاريخ بأن تكون كالموج، ذلك ان شوق الموج للوصول الى الشاطئ اجمل من وصوله، ولذلك لا يزال يسير ويحلم بالوصول، وكل الموج الذي وصل تحول موجاً مرة اخرى ليصل من جديد.
الاجوبة عن الخلاص
نشأت في عائلة فقيرة وفي جو تصفه بالقاسي، فهل ساهم ذلك في تشكل هذه النظرة لديك، وهل تؤمن بأن المعاناة تولد الإبداع؟
ـ بدأت بالحزن حين بدأت أعي الحياة، وتساءلت لماذا على الانسان ان يعيش فقيراً ومعذباً وان يشعر بالذل والدونية, ولم تلبث هذه الامور ان تحولت من حس فردي الى حس عام، ومن سؤال ذاتي الى سؤال بشري كامل، وبدأت تتكون لدي الاجوبة عن خلاص الانسان في مأساة نشوئه وعذابات طفولته والصور التي تبقى محفورة داخله، ولا سيما ان هذه الغوايات ليست تكويناً بيولوجياً، وانما هي وليدة صراع تاريخي بين ما يسمى قوى الخير وقوى الشر, فكانت اسئلتي دائماً اسئلة واقعية وتاريخية ومستقبلية، وتبين لي في النهاية ان هناك اطماعاً ومصالح وقوى مفرغة في مفهوم العدالة, الحزن البشري ليس ماورائياً فقط، فالاسئلة الوجودية حول مفهوم الانسان ومصيره والحياة والموت تشكل حزناً آخر، ولكن الحزن الاول هو ابن الاسئلة الارضية حول الجوع والسلام والشر والخير، والتي تضعنا امام ما يسمى الحس التمردي او الثوري, فالشاعر صاحب قلم فردي ولكن بحس جماعي، وهو بالتالي مسؤول تاريخي وقائد روحي لمصير البشرية, ولو أن الروح الشعرية قادت التاريخ البشري منذ بدايته، لكان الانسان مختلفاً اليوم وكانت الاوطان بلا حدود والعالم اقل حروباً واكثر سلاماً, فالروح الشعرية هي التي تحرك فنياً جمال الانسان وتدفعنا للدفاع عن الخير والعدالة.
هذه الروح موجودة في قصائدك حيث تتحدث عن تجارب واقعية ورؤية الانسان لما يحيط به، في وقت يتجه بعض الشعراء الى الغموض والتجريد بحجة الحداثة وتجاوز مرحلة معينة، فما رأيك؟
ـ اعتقد ان التجريد والمدارس غير الواقعية، لا بد من ان تنشأ من واقع ما، ولكن اسلوب التعبير عن هذا الواقع هو الذي يختلف, فالعمق الانساني الذي يتمتع به الشعراء على اختلاف مشاربهم وأهوائهم ومدارسهم هو عمق واحد يتخذ اشكالاً متنوعة وظلالاً ورسوماً متعددة، ومن هنا يأتي الاختلاف بين شاعر وآخر.
ولكن بعض الشعر يذهب في التجريد الى حل يفقد معه قدرته على التفاعل مع القارئ؟
ـ هنا، لا بد من دراسة المجتمعات التي ينتمي اليها هذا الشعر, فالمجتمعات تختلف في ما بينها ولكنها تلتقي عند نقطة محددة هي التفتيش عن الذات البشرية, ولعل الذين يختارون الغموض في التعبير، يعتمدون مبدأ اللامعنى او مبدأ البياض الخالص او العبثية الكاملة والخروج عن علاقة اللاوعي بالوعي وعن الهموم البشرية، لجعلها موضوعاً من موضوعات الاقتصاد والسياسة، ما يجعل الشعر يستقيل عن المصير البشري، هذه الموضوعات التي يذهب اليها الشعر او يستقيل منها للكتابة والقراءة ونابعة من واقع ما، وعلينا دائماً ان نعود الى دراسة الواقع الذي تنبع منه هذه المفاهيم وهذه الإبداعات لنعرف لماذا كانت على هذا الشكل ولم تأخذ شكلاً آخر.
التغريب
هنا تبرز ايضاً الخصوصية في الشعر، فهل لا يزال لها حضورها وسط التأثر الكبير بالادب الغربي وبمفهوم العولمة؟
ـ من المشاكل التي يعانيها الشعر العربي الحديث مشكلة التغريب، والقبول بأن نكون ظلاً للآخر وان نتعاطى مع انفسنا بواسطة الممحاة لكتابة الاخر ما يلغي القيمة الابداعية والانسانية التي يجب ان نتمتع بها, فوجود الآخر فينا يغني النفس البشرية، ولكن يجب ان نذهب اليه بخصوصيتنا المنفتحة على التواصل والحوار والقبول بمجموعة كبيرة من المتغيرات، بحيث نبني علاقة مع الجميع تنطلق من مبدأ التنوع والحرية, ففي سبيل ان نكون مبدعين، وأن يعترف بنا العالم، يجب ان نقول من نحن, اما ان نتحول مجموعة من الترسبات والظلال والاصداء لأصوات تمر عبر اودية الروح، فهذا امر لن يوصل الحركة الإبداعية الى تشكيل مرحلة غنية على الصعيد الجمالي والفني.
في قصائدك ارتباط بالطبيعة وبحياة القرى يصل الى التماهي، فما شعورك وانت ترى هذا الزمان الذي يسكنك متجهاً الى الزوال؟
ـ ليست القضية في الادوات خارج الشعر، وانما كيف تكون هذه الادوات داخل العملية الشعرية، وهو ما تقدره القيمة الابداعية داخل الشاعر, و لا اظن ان هناك شعراً لم يستعن بالطبيعة ومفرداتها وببعض الادوات العصرية المحيطة به, ولكن ما يمنح قيمة لهذه الادوات هو طريقة التعاطي معها من خلال اعطائها أبعاداً اكثر غنى وعمقاً واكتشافاً, فالوردة مثلاً لن تنتهي الا حين ننهي نحن علاقتنا معها في ما يجب ان تعبر عنه، وكذلك بالنسبة للشجر والماء والغيم والرصيف، كلها عناصر تبقى او تنتهي من خلال طريقة استعمالنا لها.
لافت في ديوانك «شيخ الغيم وعكازة الريح» الحسرة التي تتحدث من خلالها عن المدرسة، كأنها معاناة لا تزال ظلالها ماثلة حتى الان؟
ـ ارتكبت المدرسة بحقي جريمة لن اغفرها، وهي انها قتلت طفولتي، واخذتني من نبض الأم ويدي الاب الى ما يعتبره الاخرون تكويناً معرفياً لدى الانسان، مرتبطاً باللوح والمعلمة والطبشور, وبين الطبيعة وهذه الادوات المعرفية، هناك مرحلة قتل الطفولة، عوضاً عن إغناء هذه البداية المعرفية بحرية الطفولة.
هذا الامر احزنني، وجعل طفولتي كأنها مدفونة في اعماقي، ازورها دائماً كما يجلس الغرباء عند المساء قرب مقابر اهلهم ممتلئين بالحنين الى اوطانهم البعيدة, فقيمة الطفولة تنطلق من الحرية، والطفل يبقى حتى الخامسة او السادسة ملكاً متوجاً وطاغية محبوباً، كأنه قديس يتعاطى معه الاهل من خلال الخوف والدموع والتفاني والتمني في ان يكون الاجمل والافضل، ثم لا يلبث ان يأتي المجتمع بقوانينه وقيوده ومفاهيمه، فيضع هذه الطفولة جانباً ويبدأ بالتعاطي مع هذا الكائن بإدخال العلوم والحس المعرفي اليه، مع إلغاء تلك الحرية الجميلة التي كان يتمتع بها، كأنه انقلاب على الملك الجميل والملاك النقي الصافي، بإدخاله زنزانة تعذيب بحجة الحاجة الى العلم والمعرفة.
ربما زاد في حدة الامر انك درست في مدرسة داخلية؟
ـ صحيح، في كتابي الاخير نظرت الى الدير كأنه مكان للعشاق وليس مكاناً للطباشير والركوع في زاوية الصف وممارسة القوانين القمعية في سبيل مجموعة من الشهادات, فالدير كان ممتلئاً بالعصافير، لكنها كانت تذهب الى الشجر وانا ادخل الى الصف, وللطفل تكوين ينطلق من الاسئلة وكل الاجوبة لا ترضيه, فهو السائل الاول، والسؤال يبقى دائماً داخلنا ويذكرنا بالطفل الذي ذهب وبقيت ظلاله.
لننتقل الى اتحاد الكتاب اللبنانيين الذي تترأسه، ما دوره وما وضعه في الحال الراهنة؟
ـ المشكلة ليست في اتحاد الكتاب فقط وانما في مفهوم الاتحاد في اي بلد في العالم, فنحن نمر بمعضل تاريخي على الصعيد الثقافي، وكثيراً ما نسأل انفسنا عن ضرورة وجود الاتحاد, اعتقد ان اهمية اتحاد الكتاب انه مستقل عن السلطة والدولة، وغير مرتبط بمفهوم النظام السياسي والاقتصادي, الاتحادات العربية اجمالاً لا تأتي بأي تصرف الا بأمر من السلطة، اما نحن فلنا موقفنا المعارض من منطلق ان على السلطة ان تخدم اهدافنا وأبعادنا الانسانية, ولا شك في ان الاتحاد مر بظروف مالية صعبة اصابته بالشلل، ولكننا نحاول ولا بأس من المحاولة, ولكن مشكلة اخرى تواجهنا هي الارتباك السائد على الصعيد الثقافي عموماً، ما يجعلنا في تساؤل دائم عن كيفية مواكبة العصر وتحدي الصعوبات المتدفقة علينا من اماكن قريبة وبعيدة.
لنعد اليك ختاماً كشاعر اغنية، لماذا لم تتعاون مع غير السيدة فيروز، ولماذا توقف تعاونك معها؟
ـ تعاوني مع السيدة فيروز لم يبدأ ولم يتوقف، فهناك ظروف وأسباب متعددة، وانا لست كاتب اغنية اصلاً وانما دخلتها من طريق الصدفة, والواقع انني افضل ما اطبعه من دواوين على ما اكتبه من اغانٍ، رغم التداخل بين الاثنين على الصعيد الفني.
اما لماذا لم ادخل عالم الغناء مع غير السيدة فيروز، فهذا امر ليس من طبعي، ولست منقذ الاغنية العربية مما وقعت فيه.