النجف من هدى جاسم ومحمد حسن: تبدو النجف كامرأة لفلفت عباءتها المغبرة بالتراب ونوت الرحيل بعيدا عن الموت والقبور. هكذا بدت مدينة النجف الاشرف وهي تهاجر باهلها بعيدا عن الرصاص المختلف الجنسيات والمحلي. «الشرق الأوسط» زارت مدينة الاشباح الا ممن تقطعت بهم الاسباب، واولها الفقر لعدم وجود معيل لهم في مدينة اخرى، لقد بقوا هناك بانتظار مصيرهم المجهول. قبل ان ندخل النجف كانت الكوفة تلك المدينة الموغلة في القدم تمتد عند مسلم بن عقيل الصحابي الجليل وميثم بن يحيى التمار الذي تعرض جانبه الايسر للقصف. في الكوفة بدت الحياة طبيعية جدا على الرغم من وجود المسلحين فيها وحاملي القاذفات الذين اوقفوا سيارتنا للاستفسار عن الوجهة التي نقصدها، وعندما تعرفوا الى هوياتنا حذرونا من المصير المجهول الذي سنلقاه في مدينة الموت. دخلنا النجف الاشرف كنا نبحث عن معالم الحياة فلم نجد في بداياتها سوى دخان الحروب ورصاص معلق على جدران البيوت. فالمحلات مقفلة والحياة شبه ميتة. بعض الطرق المؤدية الى الحي العسكري او الى (الولاية) كما يحلو لاهل المدينة تسميتها مغلقة وان تجاوزت اي حاجز من هذه الحواجز فستكون في مرمى القناص الأميركي الذي ينتظر بفارغ الصبر فريسته تحت شمس آب الملتهبة. ترجلنا من السيارة لالتقاط الصور التي توثق موتى مدينة العلم والحياة، لكننا سمعنا صراخا عاليا من الجانب الاخر للشارع يحذرنا من توجيه بندقية القناص الينا. اعانتنا الكاميرا على التقاط بعض الصور، ثم الهروب ولو قليلا من عيون القناصين الأميركيين.
وجدنا صاحب احد المحلات وقد فتح ابواب محله بخوف ليقوم بتصليح السيارات العاطلة في منطقة الحي الصناعي الذي وصلناه بشق الانفس وبعد لف ودوران دام وقتا طويلا. يقول منتصر عماد وهو صاحب المحل المذكور ان العمل في النجف متوقف حاليا، ونحن نعاني من قلة المؤن وعدم توفر الادوية والرعاية الصحية، اضافة الى تعرض كل مناطق النجف الى القصف الجوي وبشكل يومي من قبل الطائرات الأميركية وعندما تنطلق اية قذيفة من اي مكان تقوم قوات الشرطة العراقية باطلاق رصاصها صوب المناطق التي انطلقت من احداها القذيفة، وكذلك بالنسبة للأميركيين ويقع ضحية هذا التصرف العديد من الابرياء.
ويقول صاحب مكتب الرشيد القريب من مرقد الامام علي: ان مكتبه احرق بالكامل، رغم اننا لم نطلق الهاونات منه فلماذا يكون مصيره الحرق؟! وعند منطقة حنانة كان عبورنا مستحيلا لكننا توقفنا عند مرمى الرصاص لنسمع اصوات العوائل وهي تطالب حكومة اياد علاوي بايجاد حل لها، كونها تعيش تحت القصف المستمر ليل نهار وعناصر جيش المهدي بين بيوتهم وكذلك الشرطة والقوات الأميركية والاشتباكات مستمرة والضحايا في كل شارع. صلاح عبد المهدي صاحب سيارة اجرة يقول: ان العمل غير متوفر منذ عشرين يوما وكل الطرق المؤدية الى مدينة النجف مغلقة، خصوصا طريق كربلاء والحلة والديوانية مع عدم وجود الوقود من بنزين وغاز ونفط، اضافة الى شحة المواد الغذائية، مؤكدا انهم لم يتناولوا اللحوم منذ بدء الاشتباكات ولحد الان. معاناة اهالي النجف كبيرة هذا ما نقله لنا حيدر هادي (اعمال حرة، متزوج ولديه ثلاثة اطفال) يقول، نحن لا نستطيع ترك بيوتنا على الرغم من تردي الاوضاع الأمنية فليس لدينا اقارب في محافظات اخرى.
الوضع الان في النجف مخيف وينذر بحدوث كارثة فالمستشفيات مغلقة واذا احتاج احدنا للعلاج يذهب الى الصيدلي اذا كانت صيدليته مفتوحة ويطلب منه المشورة حيث يقوم الصيدلي بدوره بابتكار العلاج المناسب قائلا للمريض «جرب هذا او ذاك فلربما ينفع احدهما». اما زاهر سرحان واسامة غني فقد عرضا علينا اصابتهما بشظايا الهاونات التي اخترقت جسديهما واحدثت فيهما جروحا بليغة. وعلى الرغم من موت الحياة في النجف القديمة والجديدة، الا ان البعض من اهلها يحاولون صناعة حياة وسط الموت فيذهب احدهم الى مركز صيانة النجف للكهرباء ليأتي بفريق عمل محاولين اعادة الطاقة الكهربائية الى (بيوت المحلة) وعندما تسلق عباس راهي وعباس نصيف يساعدهما قاسم غالب السلم نحو عمود كهربائي قال لنا احد العباسين ان هذه الاسلاك تقطع كل يوم بفعل الرصاص لتنام احياء المدينة في ظلام دامس.
يقول ضياء ان مناطق البراك والحويش والعمارة وشارع المدينة وخان المخضر معزولة تماما عن باقي الاحياء، حيث يجري فيها قتال عنيف ولا نعرف لحد الان عدد ضحايا القتال. خضير عبد العباس صاحب محل لبيع الاقمشة في شارع الصادق المجاور لمرقد الامام علي، قال لنا لقد تسللت الى المنطقة التي يقع فيها محلي فوجدته محروقا بالكامل وقد سرقت كل بضاعتي وكذلك محلات وبيوت كثيرة والمنطقة تمتلئ برائحة الجثث المتفسخة التي تنذر بكارثة بيئية. ويؤكد خضير ان الحياة صعبة جدا ولا يتمكن اي مواطن من الحركة لجلب احتياجات عائلته من المواد الغذائية التي كان من الممكن جلبها من السوق الكبير، الذي احترق هو الاخر.. ويطالب خضير انصار الصدر وانصار الحكومة على حد قوله بفض النزاع والنظر بعين الرحمة الى المواطن البسيط الذي ضاع وسيضيع وسط هذا الكم الهائل من الرصاص. ما زالت الشوارع المؤدية الى ضريح الامام علي مغلقة وما زال القناصون يبحثون عن فريسة جديدة تخترق الحواجز. كانت «الشرق الأوسط» تحاول ان تصل الى ابعد نقطة وقد وصلنا الى بعض منها وسورتنا البنادق في اماكن اخرى لتمنعنا من الدخول. وقال لنا الطفل مجيد اسماعيل انه يخاف من القصف الجوي ولا يعرف لماذا يضربون النجف ولماذا يقف الملثمون امام بيته ويطلقون الرصاص. اسئلته وقفت حيرى امام كامل عبد النبي وهو يروي لنا حكاية وسيم طالب وهو من مواليد 1982 الذي سقط برصاص الشرطة العراقية وهي تبحث عن عناصر جيش المهدي في الحي الذي يسكنه، وبعد ان اطلقت تلك العناصر احد هاوناتها على الشرطة كان الضحية شاب عراقي ينتظر مستقبلا وغدا جديدا لكنه لطخ بالدم. المدينة تحترق. المحلات مغلقة واهلها العاجزون عن الرحيل يقفون مذهولين امام ما يجري لكنهم ودعونا وحملونا مهمة ايصال اصواتهم الى العالم فهم يعانون الموت القريب منهم، ولا يستطيعون حتى دفن موتاهم في (السلام المقبرة)، واصبحت كل بيوتهم مقابر. كان علينا ان نغادر النجف لعدم استطاعتنا نقل ما يجري الى مقر الجريدة في لندن الا بعد العودة الى بغداد لعدم وجود الهواتف والإنترنت واي مظهر من مظاهر الحياة. خرجنا من النجف لتستقبلنا منطقة العباسيات برائحة العنبر الشهير ولكننا ما زلنا نحمل رائحة الموت التي طغت على تلك الرائحة الزكية والتي تؤملنا في ان تعم كل مدينة النجف بعد ان تجف الدماء ويسكن الموتى السالمون في مقبرة السلام وتعود النجف الى اسمها دارا للسلام وليس للحرب.