بغداد - سؤدد الصالحي: هل صدقتم ان هؤلاء فقط هم سكان المجمع؟ تضحك ام علي, صاحبة كشك صغير لبيع الحلويات والمشروبات الغازية, وهي تشير الى مجموعة من الصبية لا يتجاوز عددهم اصابع اليد, وتكمل حديثها الى "الحياة": "ما ان هدأت الأوضاع في مجمع صدامية الكرخ السكني, وفكت القوات الأميركية حصارها عنه, حتى سارع اصحاب البيوت في المجمع الى مغادرتها". وتشير الى ان احداث الأيام الماضية والاشتباكات التي تندلع بين حين وآخر في شارع حيفا وساحة الطلائع القريبة منه, باتت تشكل خطراً على الجميع "وصاروا يفكرون بثغرة قانونية تسمح لهم ببيع دورهم".

الدور الأنيقة التي بناها الرئيس المخلوع صدام حسين, في شكل يليق بسمعة المنطقة التي احتضنته سنوات طويلة, اثر انتقاله من تكريت وسكنه في بيت خاله خير الله طلفاح, أحد سكان المنطقة آنذاك, تضم مواطنين بسطاء, صحوا فجأة ليجدوا "القيادة" آنذاك مهتمة بإسكانهم في دور تليق بمكانة الذكريات التي حفظها "القائد" عن المنطقة. وتقول ام علي: "قضيت 13 سنة هناك في غرفة صغيرة مع عائلة زوجي الذي لم يكن يملك سوى راتبه العسكري, وتحملت أذى اخوة زوجي لأنني لم اكن امتلك البديل". وتشير السيدة التي تحث الخطى نحو الاربعين, الى ان الكشك الصغير الذي وقفنا امامه هو الذي اعالها وأبناءها على مدى السنوات الماصية.

قبل ان نخطو بعيداً, هرع الينا شيخ جاوز السبعين من عمره, وراح يتحدث بعربية فصحى لا يخالطها عوج, ومن دون أن يمهل نفسه فرصة التعرف الينا وهدفنا, انطلق يتحدث عن مشكلته: "تعبت كثيراً من زيارة المسؤولين, اذهب اليهم وفي كل مرة الجواب واحد: لا يحق لك البيع, لأن (السيد الرئيس القائد) بنى هذه البيوت لتسكنوها فقط", ولم نملك دفعاً لنوبة ضحك انتابتنا. فالشيخ محسن يتصرف وكأن النظام السابق ما زال قائماً, حتى انه يحرص على ترديد عبارة "حفظه الله ورعاه", كلما ورد ذكر صدام. وتتجلى مشكلة هذا الشيخ في رغبته في بيع داره الواقعة في المنطقة ذاتها, لأسباب باتت ملحة من وجهة نظره, ثم يستدرك: "ارتباط المنطقة بصدام وتاريخه الشخصي صار وبالاً عليها". فرغم السنوات الطويلة التي أمضاها أهالي المنطقة بالتباهي, كون منطقتهم ضمت "القائد" وكانت له "الملاذ الآمن إبان مطاردة أنظمة سبقت سلطته له", لكنها اليوم "باتت تدفع ثمن تلك المباهاة". فجميع العراقيين صاروا يتعاملون مع اهالي الكرخ بوصفهم الفئة التي استفادت من نظام صدام و"مكارمه". ويلفت الشيخ الى ان "الغالبية لا تعلم ان صدام لم يقدم للمنطقة اكثر من مشروع اعادة بناء دورها وفق السياق الذي أراد. وهو كان يسعى الى ابقاء المنطقة مغلقة ومنع اهاليها من المغادرة, باصداره القانون الذي يمنعهم من بيع دورهم".

عزلة اهالي المنطقة, منذ سنوات طويلة, وصغر مساحتها, وتاريخها المرتبط بتاريخ الرئيس السابق, جعلتها معرضة للمضايقات من القوات الاميركية التي باتت تكثر دورياتها بحجة وجود اوكار تختبئ فيها جماعات مسلحة تنطلق من المنطقة لتشن هجمات على ساحة الطلائع وشارع حيفا المتاخمين لمجمع صدامية الكرخ. ورغم صعوبة تصديق هذا الادعاء, نظراً الى الحساسية الشديدة التي يتمتع بها اهالي المنطقة ازاء كل ما يعزز شكوك القوات الاميركية, ويوطد الصلة مع اتباع النظام السابق او الجماعات المسلحة, الا انه يكاد ألا يخلو من صحة. فالمنطقة التي باتت تخلو الا من بضع عائلات منذ فترة طويلة, وموقعها المطل على نهر دجلة مباشرة من جانب, وعلى امتداد شارع حيفا وساحة الطلائع من جانب آخر, يرشحها لتكون والمناطق المحيطة بها ساحة قتال من الطراز الأول, ويترك المجال واسعاً امام المسلحين اذا اســـتخدموها كقاعدة لانطلاقهم في الهجوم والانسحاب في الوقت الذي يرغبون, باستخدام النهر, والمحلات القديمة المجاورة. وهذا يترك وســـط بغـــداد تحت رحمتهم من دون ان تمتلك الاجهزة الأمنية المحلية والقوات الاميركية المساندة لها وسيلة لمنع ذلك.