ريما المسمار: قدم المخرج المصري يسري نصر الله فيلمه الجديد "باب الشمس" في افتتاح مهرجان "ايام بيروت السينمائية" الثالث اول من امس بينما انطلقت عروضه التجارية بتوزيع "كريستال فيلمز" في الصالات المحلية مساء امس. والمشروع المقتبس عن رواية الياس الخوري (سيناريو نصر الله والخوري ومحمد سويد) يقع في جزءين يبلغ طولهما اربع ساعات ونصف الساعة. على ان عروضه التجارية ستقدم كل جزء على حدا. أمس انطلقت عروض الجزء الاول "الرحيل" على ان يعقبه الثاني، "العودة"، في مرحلة لاحقة. الفيلم من انتاج محطة "آرتي" الفرنسية الالمانية إلى مساهمات من جهات أخرى، عُرض في مهرجان "كان" الماضي ويشكل افتتاحه في بيروت فاتحة عروضه العربية. صُوِّر بين لبنان وسوريا والاردن بفريق عمل كبير ومجموعة ممثلين من جنسيات عربية مختلفة في مقدمهم نادرة عمران، حلا عمران، باسل الخطيب، ريم تركي، عروة النيربية، دارينا الجندي إلى مجموعة كبرى تضم اسماء كثيرة.
"المستقبل" التقت المخرج في حوار حول العمل.
* * *
متى فكرت للمرة الاولى برواية "باب الشمس" وبعمل فيلم منها؟ قبل عرض "آرتي" أو بعده؟
ـ عندما قرأتها للمرة الاولى وقت صدورها عام 1998. فكرت في داخلي لو أنني استطيع ان أحوّلها فيلماً. ولكن ذلك لم يتعدَ التمني وسرعان ما صرفت النظر عن الموضوع ليقيني من ان الانتاج العربي لن يتحمس لاخراج مشروع من هذا النوع. وهذا ما حدث بالفعل في ما بعد. الجهة العربية الوحيدة التي شاركت في انتاج الفيلم هي المغرب. أما ما تبقى من هيئات وشركات وتلفزيونات عربية لم تشارك. المساعدة كانت على شكل اتاحة الفرصة لنا لنصور في سوريا ولبنان والاردن. بالعودة إلى الرواية، لم أعد إلى التفكير فيها كمصدر لفيلم سينمائي الا في العام 2000 عندما جاءني المنتج الفرنسي هامبير بلزان بمشروع وصفه بـ"الخرافي" وهو رغبة جيروم كليمان وبيار شوفالييه في محطة "آرتي" في انتاج فيلم عن فلسطين أو الاحرى عن عائلة فلسطينية في شكل "ساغا" )َّفهف(. كان رد فعلي الاول الرفض السريع لإحساسي بأن الموضوع مركب، أقصد انني مصري ومصر وقعت معاهدة سلام مع اسرائيل. وركب في رأسي فوراً التصور انهم، اي في "آرتي"، لا بد يفكرون في مشروع عن قصة حب بين اسرائيلية وفلسطيني بأبعاده حول السلام وكل ذلك "الكلام العبيط". رفضت. ولكن الرواية عادت إلى ذهني، فأعدت قراءتها على الفور واتصلت ببلزان وقلت له انني موافق على المشروع شرط ان يكون عن رواية "باب الشمس" وان يوافق الياس الخوري على تحويلها وان يشارك في كتابة السيناريو. "يا كده با بلاش". بعد أسبوعين، تقابلنا، هامبير وشوفالييه وكليمان وأنا، في مؤتمر في بيروت. عرضت عليهم المشروع واوضحت انني لن اعمل فيلماً عن السلام اذا كان هذا ما يفكرون فيه. كنت عدائياً بعض الشيء فنظر الي أحدهم قائلاً: "نريدك ان تصنع فيلماً جيداً، سوى ذلك أفعل ما تريده." من تلك اللحظة، اصبحت لدي السيطرة الكاملة على المشروع من السيناريو وحتى اختيار كل تفصيل. بدأ العمل مع الياس ومحمد سويد في أيار 2001 لمدة ثلاثة اشهر ومن ثم ثلاثة أشهر أخرى إلى أن انتهى السيناريو في تشرين الثاني من العام نفسه. المشكلة الاولى التي واجهتنا هي استحالة التعاون مع ممثلين فلسطينيين لعدم قدرتهم على دخول سوريا ولبنان والاردن. عندها، توجهت انظاري إلى الاردن والممثلين الفلسطينيين المقيمين في الخارج. هيام عباس كانت مشاركتها محسومة في دور "ام يونس" وكذلك نادرة عمران كانت من اوائل الممثلين الذين وقع الاختيار عليهم ولعبن دور "أم حسن". المشكلة الثانية كانت العثور على "يونس" لأنني منذ قرأت الرواية لم افهم لماذا هو بطل. وبالنسبة الي، لم تكن صورة البطل المقدام المغامر بأكتافه العريضة هي المطلوبة لأنه عندها كان سيطغى على الشخصيات الاخرى وسيشعر المتفرج بأنه امام فيلم نضالي. شيئاً فشيئاً بدأ طاقم الممثلين يكتمل. بدأنا التصوير في أيلول 2002 وحتى كانون الثاني 2003 انتهى الجزء الاول. وعدنا في أيار 2003 لنصور الجزء الثاني وحتى تموز.
ذكرت أن الفيلم يعكس علاقتك بفلسطين...
ـ وعلاقة محمد والياس أيضاً....
هل كان عندك في مرحلة ما ذلك الاحساس الذي يلازم مخرجين كثر بـ"الواجب" تجاه صنع فيلم عن فلسطين؟
ـ إطلاقاً بل ان ذلك كان كابوساً. فكرة الواجب منفرة جداً بالنسبة الي. ولكن يمكن الحديث على الواجب بعد الاحساس بالموضوع والتعمق فيه. إنما علاقتي بالسينما لم تكن يوماً قائمة على الواجب ولا حتى علاقتي بالقضايا العامة. بل هو الاحساس بالشيء الذي يحركني. ثم ان قضية فلسطين قائمة منذ ولادتي والعرب يحملونها على رأسهم ويدورون بها. ولكن إحساسي بأنني استطيع ان اتناولها كما أريد وانني استطيع ان أقول أشيائي الخاصة عنها، إلى وقوعي على رواية "باب الشمس"، كل تلك أنضجت المشروع واثمرت الفيلم. أضف إلى ذلك، انني للمرة الاولى أجد ان ما ارغب فيه ممكن تحقيقه اي اجتماع "الرغبة" و"الامكانية". عرض "آرتي" ذاك كان مذهلاً. فبدونه لم يكن المشروع ليتحقق إذ ان العرب لن ينتجوا فيلماً بهذه الامكانيات عن فلسطين ما لم يكن خطابياً ونضالياً والاجانب لن يغامروا به ايضاً.
عمل من هذا النوع يقوم على التاريخ وعلى واقع يتفكك ويتركب كل يوم، هل كان ممكناً بدون مصدر ادبي جاهز؟ اقصد، هل سهّل وجود الرواية عمله؟ وهل فكرت في لحظة انه كان يمكنك ان تؤلف سيناريو لو لم تنوجد الرواية؟
ـ ليست مسألة سهولة لأن الرواية صعبة. ولكن بالنسبة الي، كانت فكرة العمل مع محمد سويد والياس خوري مثيرة جداً وفوق ذلك وُجدت الرواية. ولكن حتى من دونها، كنا سنطلع ثلاثتنا بشيء حتماً.
إلى أي حد أسهمت العلاقة بين ثلاثتكم خلال الكتابة إلى إعادة طرح النقاش حول نص مكتوب ومكتمل؟
ـ هذا ما حدث بالفعل. فنحن من جهة كنا امام رواية مركبة وصعبة وجميلة ومن جهة ثانية كنا مدركين اننا لا نستطيع أخذ كل شيء لم يكن ممكناً نقل الرواية كاملة كما لم يكن الهدف ان نخر امامها ساجدين كنص كامل لا يُمس. متابعة النص بشكل حرفي لم تكن واردة والياس كان أول المبادرين إلى وضع الرواية جانباً والسعي إلى الخروج بنص درامي موازٍ لها. فهو كتب الرواية وقال ما يريده ونالت شهرتها ولم يكن همه إثبات شيء. لذلك كان التحدي بالنسبة إلينا ان نخرج بسيناريو جيد.
في العادة، أول ما يواجهه السينمائي عند اقتباسه لرواية أو أي عمل أدبي هي كيفية تحويله صورة. "باب الشمس" تقوم على الصورة اصلاً وعلى أزمنة متداخلة وحكايات متشعبة. بهذا المعنى هي نص سينمائي إلى حد بعيد. كيف كان التعاطي مع هذا الجانب؟
ـ عندما نكون أمام رواية كبيرة، فإنها تتحول جزءاً من حياتنا كأنها تجربة عشناها، بالنسبة الي وإلى محمد على الاقل لأن الياس هو كاتبها. عندها، يمكن إعادة إخراجها من ذواتنا في شكل درامي واختيار التفاصيل والحكايات التي تخدم النص الدرامي الجديد.
تستهل الفيلم بحكاية "شمس" و"خليل". هل ذلك من قبيل قلب الادوار وطرح التساؤلات حول من يكون البطل؟
ـ انطلقت من جملة موجودة في الرواية وهي كيف يمكن الشخص ان يحكي حكاية من دون ان يحكي حكايته هو. صياغة هذه الجملة درامياً كانت وراء هذا الخيار للقول ان "خليل" لم يأتِ من المشروع وان لديه قصة وقصته عظيمة. وفي مكان آخر في الرواية، ثمة ذكر لأن اقامة "خليل" في المستشفى هي بهدف اختبائه. نحن لممنا هذه التفاصيل وجمعناها لنصوغ خطاً درامياً. هناك أيضاً تركيز على فكرة أن "يونس" بطل لأنه عاشق وليس لأنه مقاتل، و"خليل" عاشق ايضاً فيستطيع ان يحكي حكايته مثل "يونس". ولكن في النهاية، تشبثت بالاشياء التي تشبه أفلامي من دون ان أضيق عوالم الشخصيات والفيلم، أي التركيز على فكرة الفرد والجماعية والفرد والتاريخ الحاضرة في أفلامي كلها ومحاولة الفرد ان يجد لنفسه مساحة بعيداً من ضغط التاريخ والجماعة بحيث لا يفقد فرديته. في هذا الفيلم، نجد الموضوع الذي المقموعين بسببه منذ خمسين سنة. الافراد غير موجودين في القضية الفلسطينية. لذلك، تشكل "باب الشمس" استثناءً لأنها تقوم على أفراد وأفراد أقوياء. وهذا ما جذبني اليها بالدرجة الاولى، إحساسي بالحرية الكاملة في التعامل مع الفرد فيها وتفجير فرديته. لعل اقوى الافراد في افلامي هم في "باب الشمس".
ربما احساسك هذا بقوة الافراد مضاعف هنا لأن صوغهم يتطلب تكسيراً للصورة المنمطة التي لا أعرف الفلسطيني خارج القضية الفلسطينية..
ـ تماماً. ثمة مفارقة في ان هذا الفيلم يقدم شخصيات فردية قوية بينما هو يتناول موضوعاً وقضية كبيرين. "نهيلة" شخصية رهيبة وكذلك "يونس" لا سيما في المشهد الاخير حيث يشرح لها كيف انه لم يعد يرغبها بعد ان رمته بالحقائق مقررة ان تتوقف عن التمثيل.
في الجزء الاول، نفس كلاسيكي ملحمي لا يشبهك كثيراً. انه يشبه فلسطين الاسطورة والصورة. لماذا لم تحاول كسر الاسطورة مفضلاً ان تنقاد خلفها؟ وهل استخدام أسلوب سينمائي مغاير لأسلوبك هو للتعبير عن بعد ذاتي من فكرة الاسطورة؟
ـ لا أعرف تماماً كيف اشرح هذا الميل او علاقتي بتلك المرحلة. ولكن ما حاولت فعله في الجزء الاول هو سرد تأسيسي أعتقده ناقصاً في صورتنا عن أنفسنا وتاريخنا. "باب الشمس" كمشروع كامل يمكن إمساكه بقواعد أفلام "الويسترن" والحروب: كيف يمكن للفرد ان يحيا في ظروف غير انسانية ويرتكب اموراً غير انسانية وفي الوقت عينه ان يبحث عن الانسانية في داخله. وهذه الافلام تقوم على شيء سياسي هو تقديمها الحكاية من جانب ابطالها. في "القيامة الآن" مثلاً، لم نشاهد ماذا يفعل الفييتناميون. الهدف ليس إنجاز فيلم محايد بل غارق في ذاتيته. من هنا، كنت أصنع فيلماً ذاتياً وأحاول البحث في تلك "الحدوتة" الكبيرة عن الافراد وعن تمردهم وعن بحثهم عن تميزهم وانسانيتهم. والاهم من ذلك كله الخروج من إشكالية الجلاد والضحية لأنها إشكالية سلطة. بالنسبة الي، الضحية لا تقوم على اية اخلاقية لأنها ترد على الوحشية بالوحشية. لا أفهم الآن كيف اننا في حرب لبنان كنا ندين أفعال الكتائب والقوات ونبرر لمن نتعاطف معهم جرائمهم بحجة انها انتقام. لم أعد استطيع قبول ذلك اليوم. لذلك، يجذبني إلى الياس خوري انه حين يكتب لا يعرض وحشية الآخر بل يبحث عن انسانيته هو. هذا هو المشروع ككل. اما الجزء الاول فهو بحث "خليل" عن الاب، عن صورة الاب. وهو بحث مبني على الحكايات المتناقلة عن فلسطين وعما حصل في النكبة. بهذا المعنى، الجزء الاول هو تجسيد للخيال راعيت فيه هذا الخيال لأنني اردت ان يذكر بأفلام الخمسينات، كأن المتفرج يشاهد حلماً او يستمع لحكاية جدته. وأردت من خلال هذه الاسلوبية ان اجد نفسي ايضاً، لذلك لا اوافق كثيراً على أن الجزء الاول لا يشبهني. فهناك تفاصيل الكاميرا وكيفية تقديم الحلم وغيرها تشبه تفاصيل من افلامي الاخرى... أما الجزء الثاني فيرد على الاول ويتصادم معه. إنه بحث عن الام وعثور "خليل" على نفسه أو إعادة تركيبه لذاته كفرد. وهو محاولة تحديد ماذا حل بالفرد بعد انتهاء الحدوتة وخوضه الحرب الاهلية وحرب المخيمات وتجربة الاشتراكية و..و.. الجزء الثاني لا ينقصه الحلم بتاتاً ولكنه لا ينجح بدون الاول. علي الاعتراف بأنني شعرت بمتعة غامرة في قول حكاية كما في الجزء الاول. كنت بحاجة لفعل ذلك والمتفرج أيضاً يحتاج إلى مشاهدة الحكاية الاولى.
في الجزء الاول، يكثر الكلام على الحكايات والقصص المروية من أكثر من وجهة نظر وكأن هناك "كذب" كثير محيط بالموضوع الفلسطيني. بينما في الجزء الثاني، صورة صادمة عن فلسطين...
ـ كذب كلمة كبيرة. لنقل الخيال. أنا موافق. ولكن دعيني أقول شيئاً: فلسطين ليست هي الحاضرة بل الفلسطينيون. ثمة جانب حاولت التعبير عنه وربما يأتي في صلب سؤالك. فقد وضعت نفسي مكان الفلاحين في الجزء الاول لأنقل لاوعيهم بأمور كثيرة. كانوا يعيشون حياة بسيطة، يزرعون اراضيهم ويزوجون بناتهم صغيرات السن وتلك قسوة... ولكن وعيهم بحيواتهم وبفلسطين لم يكن موجوداً. في المشهد الذي يسألهم المعلم ما هي بلدكم ويجيبونه "عين الزيتون"، ينهرهم قائلاً ان بلدهم "فلسطين" فيرددون وراءه الاسم إنما من دون وعي.
هل هذا انحياز لمقولة احدى الشخصيات ان الوعي بفلسطين جاء بعد فقدانها؟
ـ تاريخياً هذا صحيح. فلسطين كانت بلداً تحت الاحتلال العثماني وجزء من سوريا الكبرى وعندما بدأت الحركة الوطنية الفلسطينية الهادفة إلى إعادة تعريف ماذا يعني فلسطيني، كان ذلك في منتصف الثلاثينات. وذلك ما حصل أيضاً في مصر حيث كانوا حتى الثلاثينات مازالوا يناقشون قانون الجنسية المصري، أي ماذا يعني مصري؟ ولكن الفارق ان النكبة في فلسطين قطعت كل تلك الافكار، مؤجلة الوعي بفلسطين إلى ما بعد النكبة. فهؤلاء الفلاحون كانوا خارج العالم المعاصر إلى أن هجم عليهم ذلك العالم وطردهم. لذلك اقول ان ما تسمينه كذباً اسميه أنا حكايات وهي بمثابة الاساطير التي تحتاج اليها كل هوية لتتعرف بها على نفسها. ولكن في موازاة ذلك، الجزء الاول يرد أيضاً على الاكاذيب الاسرائيلية القائلة بأن فلسطين كانت صحراء وبلا تاريخ قبل مجيئهم، إنما من دون أن يكون نضالياً. الدفاع عن خيال الفلسطينيين عن فلسطين هو حق وهو جزء من تأسيسهم لأنفسهم.
إلى أي حد كنت واعياً لضرورة تجنب تقديم "الفيلم" عن فلسطين؟ بمعنى آخر، تحمل الرواية والفيلم عناصر الحكاية التاريخية من أولها إلى آخرها. ألم تخف من الوقوع في فخ الحكاية الفلسطينية المطلقة؟
ـ لم يكن خوفاً بل وعي كامل لتجنب فكرة الفيلم المطلق أو الكامل عن فلسطين. في الاساس، لم أكن لأتجرأ على صنع هذا الفيلم لولا وجود سينما فلسطينية وتجارب خاصة لسينمائيين فلسطينيين من أمثال إيليا سليمان ونزار حسن وسواهما ممن عبّروا عن أنفسهم كأفراد. وجود اولئك يشجعني على عمل فيلمي الخاص عن فلسطين.
تستهل الجزء الثاني بلقطات فيديو من دون أن تلجأ إلى شرحها على غرار ما في الرواية. فهل هذا نوع من إعلان أولي وموقف من حيث اعتبار الجزء الثاني رداً على الاول؟
ـ هذا صحيح لأنني اردت ان اضع المتفرج منذ اللحظة الاولى أمام أسلوب مختلف. لذلك بدأته بمشهد فيديو ومن ثم مظاهرة وبعدهما مقابلات واقعية مع الناس. انه الإحساس بخشونة الجزء الثاني وبتأثيرات اليوم حيث خرجنا من الاسطورة وأصبحنا في حكاية خليل وصورته وحكايته. من هنا تتكرر حكاية "شمس" انما بإضافات لأن "خليل" هو الذي يحكيها الآن أي أنه يحكي افتتانه بها ويضيف التفاصيل التي تعزز صورته كعاشق. هذا ما يحتاجه "خليل" ليستطيع ان يتماسك من جديد. الفيلم يركز على هذه الناحية من إعادة تركيب الحكاية من جديد لتشكيل الذات من جديد. هنا يأتي رفض الشخصيات في الجزء الثاني لـ"التمثيل" اي رفضها ان تكون صورة عن نفسها او حكاية عن نفسها يطغى الخيال عليها. يرفض "خليل" ان يكون قصة لأنه يريد ان يعيش. وتتوقف "نهيلة" عن تمثيل دور زوجة البطل لأنها تعبت من ان تكون صورة لشيء غير ملموس. بعضهم اعتبر ذلك تعبيراً عن انهزامية الشخصيات، بينما أنا أراه انحيازاً للحياة ومراجعة الانسان لنفسه.
بين "خليل" و"يونس" تبادل لملامح البطولة ولكن كليهما في نهاية المطاف "بطل ـ مضاد".
ـ هما ليسا خاسرين ان كان هذا ما تقصدينه.
كلا بل قصدت انهما ليسا بطلين بالمعنى التقليدي للبطولة.
ـ هذا صحيح لأنني منذ البداية كنت مدركاً لخطورة الاتيان ببطل ذي مواصفات جسدية طاغية. ولكن اللحظة الوحيدة التي أرى فيها "يونس" بطلاً هي عندما يقرر الا يفجر "الكيبوتز" لأن في تلك اللحظة يتطور وعيه بإنسانيته. وكذلك الامر بالنسبة إلى "خليل". لحظات بطولته هي محاولته في كل مرة القيام من صدمته والبدء من جديد، أي اعادة بناء نفسه.
بهذا المعنى تبدو ميالاً إلى اعتبار "خليل" البطل الحقيقي؟
ـ حتماً "خليل" هو البطل. وهذا ما جعلنا نغير النهاية. فبدلاً من ان يأتي شبح "نهيلة" فقط، يأتي شبح "نهيلة" و"شمس" معاً لانقاذ الرجلين اللذين يعشقانهما. وبدلاً من ان يقف "خليل" على قبر "يونس" ويبكي كما في الرواية، يخوض نفس الطريق لتي كان يسلكها الاخير لأنني لا أرى نفسي، كما الياس ومحمد، واقفاً على قبر عبد الناصر مثلاً نبكيه. ليس هذا تصوّري لمستقبلي. لهذا يعود "خليل" إلى أين؟ لا أعرف. سواء اسمها فلسطين او اسرائيل او العفريت الازرق.
يبدو الواقع الفلسطيني اليوم بما يفرضه من حالة خاصة في تشكله وتفككه المستمرين، يبدو بعيداً من الافلام الا من حيث نقله أو تسجيله. أو أن الكلام على فلسطين ينهل من الماضي. "باب الشمس" ليضلً يتوقف عند منتصف التسعينات. فهل تعتقد ان محاولة رسم صورة عن هذا الواقع هي حتماً محاولة في الماضي؟
ـ كلا. حتى وقوف الفيلم في منتصف التسعينات هو توقف درامي وليس عجزاً عن رسم صورة للحاضر. ولكن السبب هو إحساسي ان شيئاً لم يتغير منذ ذلك الوقت الا المزيد من الانهيار. لماذا لا وجود للانتفاضة والانتحاريين؟ لأن الحالة اليوم مخيفة مع انهيار مؤسسات المقاومة الفلسطينية من دون ان ينبني بديل بعيداً من القنابل البشرية. لا حكم عندي على كل ذلك ولكنه ليس ملهماً بالنسبة الي البتة ان يفجر ولد في الخامسة عشرة نفسه. في الفيلم وجهة نظر سياسية تتلخص برفض مقابلة البربرية والوحشية الا بشيء حضاري أو نموذج ما حضاري، بما يفتح شباكاً امام العالم يؤكد على إمكانية حفاظنا على انسانيتنا برغم كل الرعب والوحشية. اذا كان لا بد من رسالة سياسية في الفيلم فهي ان الطريقة الوحيدة لمواجهة اسرائيل هي ان نشتغل على انفسنا لنكون أحلى واكثر انسانية وجاذبية منهم.
هل قررت منذ البداية ان الجزءين سيكون احدهما مختلفاً عن الآخر؟
ـ في البداية، لم أكن متأكداً من أن الرؤية التي في رأسي للجزء الاول ستنجح أم لا. ولكن صدقي أو لا، الجزء الاول تركب في عشرة أيام وبعدها أصبحت حراً تماماً في الجزء الثاني لأنني كنت مدركاً إلى أي حد أريده أن يكون مختلفاً عن الاول.