يتساءل الجميع، في الداخل والخارج: أين الشارع العربي؟ ثلاثمائة مليون قد تصل إلى مليار في غضون عشرين عاماً قبل أن يرحل هذا الجيل. وهل تقوم الملايين في العواصم والمدن الأوروبية عندما تتحرك الملايين في جنوة وفلورنسا وسياتل وبراج وباريس ولندن بدور الشارع العربي دفاعاً عن قضايا العرب في فلسطين والعراق وعن قضايا المسلمين في أفغانستان والشيشان وكشمير؟
ينتفض الشارع العربي بين الحين والآخر من أجل الخبز. ومعظم الهبّات الشعبية في العقدين الأخيرين كانت من أجل الخبز في المغرب والجزائر وتونس والأردن ومصر. والبعض منها من أجل الحرية أثناء الغزو الأميركي الأول على العراق بسبب غزو الكويت وبعد الغزو الأميركي الثاني على العراق لإسقاط النظام. وأخيراً تحركت جماهير الشيعة منذ ثورة النجف الأولى حتى ثورة النجف الثانية ودخول آية الله السيستاني النجف مطالباً الملايين بالدخول وراءه حماية للعتبات المقدسة وحفاظاً على المقاومة وزعامتها.
إذا ما تحرك الشارع العربي فإنه يشق طريقاً ثالثاً بين الحاكم والمحكوم لحقن الدماء سواء كان الحاكم المحتل الخارجي أو المتسلط الداخلي. فالملايين هي الأغلبية الصامتة التي يتلاعب بها الجميع، ويعيش على سكونها ولامبالاتها وغيابها عن الساحة. مع أنها هي الحل. وهي القوة الكامنة في التاريخ. تعجز أشد أنواع الأسلحة الحديثة عن قهرها. يكفي الأجساد البشرية المتراصة التي يعجز حصدها. وهكذا قهر غاندي بملايين الهنود والمقاومة السلمية أقوى إمبراطورية في العالم. كما استطاعت ملايين طهران حصار نظام الشاه. بل لقد فاقت جماهير مدن المغرب العربي المليون عربي. وخرجت المظاهرات أثناء العدوان الأخير على العراق في مناطق عربية لم تحدث فيها أن تحركت الجماهير فيها قبل ذلك باللباس الوطني. لقد تعود العالم على رؤية الحكام لطول فترة الحكم التي بلغت ثلاثة عقود من الزمان عند البعض. ولم يروا المحكومين. فكان تعامل الخارج مع الحكام دون المحكومين باستثناء أصغر دولة عربية وهي لبنان حيث المحكوم فيها هو الحاكم.
وقد قيل في تفسير غياب الشارع العربي الكثير بين الثقافة الشعبية والثقافة السياسية. فقد ورث الشعب العربي ثقافة قدرية تدعو إلى أن الحل من الخارج، وقد قيل في هزيمة يونيو- حزيران "لا يغني حذر من قدر" وكأن الهزيمة قدر مكتوب على العرب. والغريب أن تكون الهزيمة مكتوبة والنصر غير مكتوب، وأن يكون الفقر مكتوباً والغنى غير مكتوب، وأن السعادة والشقاء مقدران حتى قبل الولادة، "السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقى في بطن أمه"، وأن المتعوس لن يتغير حاله "المتعوس متعوس ولو علّقه على راسه فانوس". فكل شيء يحدث للعرب قسمة ونصيب.
وقد ولّدت القدرية في الثقافة الشعبية قدرة على التحمل والصبر والانتظار لأن "الصبر مفتاح الفرج". وغنت المواويل الشعبية فضيلة الصبر. فلا علاج للصبر إلا بكثرة الصبر بعد عجز الأطباء عن مداواة المرض بالطب الحديث. وامتلأت الأغاني الشعبية من كبار المطربين بفضيلة الصبر على العذاب والهجران إلا القليل منها التي غنت "للصبر حدود".
ثم تأتي الثقافة السياسية في نصف القرن الأخير منذ أن قام الضباط الأحرار بثوراتهم في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، وحلوا الأحزاب الشعبية التي تكونت عبر التاريخ، واحتكروا العمل السياسي، وأقصوا الحركات الإسلامية حتى عمَّ الفراغ السياسي، ووثقت الجماهير بالقادة الجدد في صياغة المشروع العربي الجديد للاشتراكية والوحدة، وإن تأجلت قضية الحرية. فلما أجهض المشروع في يونيو- حزيران 1967، وانقلب إلى مشروع مضاد منذ وفاة عبد الناصر في 1970، تعودت الجماهير على السلبية تجاه الدولة.
وبماذا ينفع التحرك الشعبي ولا يوجد تداول للسلطة سواء كان الحكم ملكياً أو جمهورياً، وإذا كانت نتيجة الانتخابات معروفة سلفاً، نجاح الحزب الحاكم وسيطرته على أغلب المقاعد باستثناء معارضة هامشية لاستكمال الشكل الديمقراطي؟ أخذت معظم القرارات في الحرب والسلام، والرأسمالية والاشتراكية كاختيار فردي للحاكم دون استشارة أحد. ولا يوجد إحساس عند المواطن أن صوته ذو أثر أو أن له قيمة في تغيير مجرى الأحداث.
تعودت الجماهير على أن الحل في يد الفرد، الحاكم المطلق، المخلِّص، الزعيم الذي اختاره القدر، المستبد العادل في ثقافة شعبية موروثة فيها يظهر الأنبياء، وتقود الشعوب، ويعود الأئمة بعد غياب طويل. وتزخر بذلك حياة الأبطال في السير الشعبية أبو زيد الهلالي، والزناتي خليفة، وعنتر، "ابن البلد عايزه ولد"، الفتوة بالنبوت في حارة الحرافيش كما صور نجيب محفوظ.
قد يكون الحل في الاعتماد على الخارج، والانخراط في نظام العالم، والارتباط بالقوى الكبرى، والعيش على فتات الآخرين. فالعصر عصر عولمة، والعالم ذي القطب الواحد. وإعطاء الآخر أكثر مما يستحق، والذات أقل مما تستحق. تهويل قدرات الآخر، وتهوين قدرات الذات. والآخر نفسه ليس له صديق دائم إلا بقدر المنفعة. فإذا تغيرت المنافع، وتبدلت المصالح ترك الأخ الأكبر الإخوة الصغار. ويخسر الحاكم مرتين. الأولى عندما خسر شعبه إلى الأبد، بالاعتماد على الخارج دون الداخل. والثانية عندما خسر الحليف الجديد البديل عن التحالف مع الشعب. ومن ثم يصبح الحاكم بلا دعامة في الداخل ولا دعم في الخارج ويكفي أقل قدر من هبّة ريح كي يسقط كما تسقط ورقة الخريف وكما حدث للجنرال ديم في فيتنام قبل سقوط النظام وانتصار حركة التحرر الوطني بقيادة هوشي منه والجنرال جياب. وأميركا وإسرائيل هما القوتان العظميان، تتعلق بهما النظم القاهرة في الداخل لتصبح تابعة للخارج، ومحاصرة بين المطرقة والسندان. وكلاهما مر. هما القوتان الظاهرتان لتكوين الإمبراطورية الأميركية، وإسرائيل الكبرى. وأوروبا مترددة تحافظ على مصالحها. ولا تغامر بمعارضة جهورية للغرب الأميركي وروسيا مغروزة في الشيشان. والشيشان من المسلمين. والمعارضة الشيشانية مع العرب الأفغان تقاوم الروس. واليابان صاحبة مصلحة. والصين مازالت عملاقاً قادماً ترعى مصالحها أولا. والعالم الإسلامي مازال يترنح بين الحضور والغياب، وفي حالة بين اليقظة والنوم.
وقد يأتي الحل من تحت الأرض عندما تتمرد نخبة إسلامية أو ماركسية على الوضع ولا تقوى على الجهر به. فتكوّن حركات سرية وخلايا تحت الأرض، وتنشأ جهازاً عصبياً قادراً على تحريك الجسد المتعب والمنهك، جسد الشعب بلا حراك. ولما كانت عيون الأمن في كل مكان فسرعان ما تفكك الخلايا، ويقدم النشطون إلى العدالة بتهمة الإعداد للانقلاب على الحكم واستعمال العنف المسلح والتخابر مع جهة أجنبية لتشويه صورتها أمام الشعب وترويع الناس.
ويتساءل الكثيرون: ما العمل لتحريك الشارع العربي وأخذ الجماهير زمام أمورها بأيديها؟ ومن أين البداية؟ وهو سؤال طالما طرحه القادة: ما العمل؟ وأجاب عنه المفكرون:"من هنا نبدأ"، ورد آخرون "من هنا نعلم".
هل يتحرك رجال الدين الأحرار كما تحرك الأفغاني وعبد الله النديم ومعه رواد النهضة الأوائل؟ فمازالت منزلتهم في أعين الناس كبيرة بالرغم من انتشار فقهاء السلطان. هل يعود الدين كحركة تحرر عربية ثانية بعد أن تولدت عنه حركة التحرر العربي الأولى وبعد أن تم إقصاء الحركات الإسلامية بين الحركتين في النصف الثاني من القرن العشرين؟ هل يعود قادة حركة التحرر العربي الأولى ليصححوا مسار التاريخ، ويعيدوا تأسيس النهضة الأولى التي أرساها آباؤهم وأجدادهم؟ هل تتحرك الجامعات العربية؟ فمازال الطلاب والمثقفون هم في الصف الأول في النضال السياسي يحملون هموم الفكر والوطن، ويرث المفكرون الأحرار الضباط الأحرار، يستمرون في مشروعهم القومي الاشتراكي، ويتجنبون أخطاء التسلط، ويحققون مطالب الحرية.
لقد طالب البعض بتحويل "جامعة الدول العربية" إلى "جامعة الشعوب العربية"، و"منظمة المؤتمر الإسلامي" إلى "منظمة الشعوب الإسلامية" حتى تخرج الجماهير عن وصايا الدول وتضارب الإرادات المتعارضة والمصالح المختلفة. وقد حاولت مؤتمرات الشعب العربي ذلك، سواء المؤتمر القومي أو المؤتمر القومي الإسلامي.
هل تقوم أحزاب المعارضة بهذا الدور على الصعيدين الوطني والقومي؟ وقد تم من قبل تشكيل اتحاد الأحزاب التقدمية العربية. وهي أحزاب بلا جماهير، وبلا رؤية عن تحريك الجماهير. يكفيها شقة في وسط المدينة، وصحيفة مكبلة بالديون، تطبع في مطابع الدولة، وتتصور نفسها كسلطة بديلة أو سلطة متعاونة، وهيكل حزبي يتصارع كباره على الفوز بمناصب القيادة فيه. يتحاورون فيما بينهم مع استبعاد إحدى القوى. وتفكر بمنطق السلطة أكثر مما تعمل كقوى معارضة. وتستقطب السلطة أجنحة منها وتشركها معها في مجالسها استئناساً لها.
بعض المنظمات الأهلية مازالت قادرة على تحريك نسبي للشارع العربي، وتعلي صوت المعارضة والاحتجاج في الخارج أكثر من الداخل تنشيطاً للمجتمع المدني. جماهيرها من المثقفين النشطين سياسياً. وهي قادرة على تحريك الآلاف دون الملايين من الفلاحين والعمال التي مازالت تكوّن ثلاثة أرباع الجماهير العربية. وبقدر وجود القيادات الطلابية تغيب القيادات الفلاحية والعمالية حتى بعد أن أصبحت الحقول والمصانع لهم بعد الإصلاح الزراعي على الفلاحين المعدمين ومشاركة العمال في الأرباح.
لم تبق إلا الأمهات والأطفال، الأمهات اللواتي زاد عبء الإعالة عليهن، والأطفال الذين يموتون بالآلاف في العراق ودارفور. لم يبق إلا الجسد العربي بلحمه ودمه أن ينزل إلى الشارع معبراً عن حجم الخسائر على العرض والأرض. فالعرب أقوياء بملايين البشر قبل ملايين الثروة، بالجسد العربي وإن ضعفت الروح وقل الخيال.
يبقى الحدث الكبير، الزلزال القادم بعد تضييق الخناق على سوريا مرة لوجودها في لبنان، ومرة لمساعدتها المقاومة الفلسطينية ثم العراقية، ومرة لملف حقوق الإنسان. فتصبح سوريا هدفاً للعدوان مثل العراق. وسوريا هي رئة الجسد العربي ومصر هي الرئة الثانية. ويلتف الحبل أيضاً على السودان، أولا لمعسكرات تدريب "الإرهاب"، وثانياً للحرب في الجنوب، وثالثاً في دارفور. والقرارات الدولية تلف الحبل كل يوم تمهيداً للعدوان الأميركي والمساندة الأوروبية، مع أن العدوان على العراق لم يكن بحاجة إلى قرار دولي.
قد يُجاب عن قريب على سؤال: أين الشارع العربي؟ فقد تعبت النظم السياسية وأصبحت عبئاً على الشعب العربي. وقد تصبح عبئاً على الحليف الأجنبي عن قريب. قد تحدث هبَّة عامة في مدن العراق بعد أن بلغ الشهداء من المدنيين المئات كل يوم. وقد تعم الشهادة من الشهيد في فلسطين والعراق إلى الشهادة عند جموع الشعب العربي. إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
التعليقات