منذ القرن التاسع عشر والعالم العربي بشكل عام يعتبر حقل تجارب الكثير من المفاهيم السياسية والخطط العسكرية التي يريد الغرب تجربتها على أرض الواقع للاستفادة منها اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا وحربيا. وكانت محاولات التدخل والهيمنة الغربية تأتي إلى منطقتنا العربية تارة باسم “التنوير والحداثة” وتارة باسم “التنمية والتقدم” وأحيانا كثيرة باسم “الإصلاح ومواكبة العصر”. وكما قام الغرب منذ ذلك الوقت بتصدير الكثير من الأفكار والأيديولوجيات ومفاهيم العصرنة. قام أيضا بتصدير مختلف أنواع الأسلحة إلى العالم العربي بما فيها أسلحة الدمار الشامل بهدف تجربتها في حروب حقيقية وواقعية وما أكثرها في هذه المنطقة. فمنطقة الشرق الأوسط مهيأة للنزاع تتوافر فيها كل مسببات الحروب الخارجية والأهلية والدينية والحضارية. كما تتوافر جميع العوامل المساعدة على استمرار هذه الحروب والنزاعات لفترات طويلة، الأمر الذي يعطي للشركات المصنعة للأسلحة مجالا أكبر للربح والاستفادة وتطوير أسلحتها مستفيدة من هذه المنطقة كحقل تجارب مجاني لجميع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة.
لذلك ظلت هذه المنطقة عبر التاريخ منطقة حساسة وذات بنية سياسية هشة، ولكن في الوقت نفسه منطقة غنية اقتصاديا ذات ثروات يسيل لها اللعاب، وذات موقع متوسط بين الغرب الأوروبي والشرق الأقصى، وهي المنطقة التي ظلت عصية على الغرب. هذه العوامل مجتمعة دفعت الغرب، عبر العصور التاريخية الحديثة، إلى الاستفادة من هذه الفرصة وتجربة قدراته وآليته العسكرية في هذه المنطقة مستفيدا من تفكك أوصالها وأوضاعها الهشة.
لقد فتحت هذه الظروف المتردية والتفكك السائد شهية الاستعمار الغربي الذي استمرأ عملية امتصاص ثروات المنطقة ودفعها إلى المزيد من الهشاشة بهدف جعلها حقل تجارب مجانيا لقدراته العسكرية وتكتيكاته السياسية. فهو أراد أن يبعد شبح الحرب عن أوروبا، التي ظلت لقرون حقل تجارب لدول أوروبا الكبرى كبريطانيا وألمانيا والنمسا وروسيا وفرنسا، إلى منطقة أخرى ليست بعيدة عنها وليست فقيرة اقتصاديا لكي يكون العائد مجزياً. فقد امتص هذا الاستعمار في الماضي القارة الإفريقية حتى لم يعد هناك ما يمتصه، فترك قارة إفريقيا لمنطقة أخرى بعدما ضمن ثروات القارة السمراء وتفككها السياسي إلى منطقة أكثر ثراء ومردودا سياسيا.
أصبحت منطقة الشرق الأوسط منطقة مؤثرة في حركة الاستعمار الأوروبي طوال القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. وخلال هذه الفترة لم تخمد أبدا شعلة الحروب والنزاعات الخارجية في هذه المنطقة، بل ظلت مشتعلة ما أن تخمد حتى تبدأ في الاشتعال من جديد. كانت الحروب التي نشبت في هذه المنطقة طويلة ومكلفة، ليس من الناحية المادية فقط، ولكن من الناحية البشرية والتنموية، أيضاً. لقد كلفت هذه الحروب بعض البلدان العربية كمصر وسوريا والأردن بلايين الدولارات وجعلت اقتصادهم مرهونا للغرب حتى يومنا هذا. لقد كانت المشاكل المستعصية عنوانا لتلك المرحلة من مراحل تطور العالم العربي.
ومنذ منتصف القرن العشرين وحتى وقتنا هذا تطور الاهتمام الغربي بالعالم العربي ودخلت الولايات المتحدة كدولة استعمارية ذات مصالح حيوية في هذه المنطقة، وتطور بالتالي مسمى المنطقة في السياسية الغربية. فهي لا تريد عالما عربيا صغيرا يضيق بمصالحها بل تريده عالما عربيا “كبيرا” يتسع لمصالحها كلها ويتناسب مع حجم الاهتمام الذي أصبحت منطقة العالم العربي تحظى به في الدوائر الاستعمارية الغربية. وكما تطورت المصطلحات السياسية تطور أيضا الاهتمام الغربي، وخاصة الأمريكي، بالمنطقة. وليتناسب هذا التطور مع المصالح الاقتصادية اخترعت الولايات المتحدة مصطلحات جديدة كالحرب على الإرهاب وتغيرت المصطلحات الغربية كلها لتتناسب مع هذا التغير الحاصل.
وما ان دخل القرن الحادي والعشرون حتى بدأت منطقة العالم العربي تأخذ مجالا أرحب سواء في مجال استمرارية هذه الحروب أو في مجال ظهور نزاعات جديدة كتلك التي ظهرت في السودان وفي العراق وإيران. كما ان تطور ظاهرة الإرهاب وامتدادها إلى تركيا وباكستان ومصر ثم إلى منطقة الخليج، والتي ظلت حتى هذا الوقت محافظة على استقرارها الداخلي، ولكنها انضمت أخيراً إلى معسكر مناطق عدم الاستقرار في العالم العربي، أدى إلى جعل منطقة الشرق الأوسط بؤرة مشتعلة على الدوام. فاستمرار حالة عدم الاستقرار والاستنفار السياسي الدائم في هذا العالم إنما هي حالة تخدم المستعمر الغربي في المقام الأول. وإلى جانب حالة عدم الاستقرار الداخلي يأتي الكيان الصهيوني ومحاولاته لتغيير خريطة طريق الشرق الأوسط لتكون هذه المحاولات هي تكملة لما بدأه الغرب قبل قرون.
إن الإرهاب والأسلحة المتطورة بما فيها أسلحة الدمار الشامل جميعها صناعات غربية بحتة صدرها للعالم العربي بهدف تغذية الخلافات الداخلية وتأجيج النزاعات الخارجية وزعزعة الاستقرار السياسي وامتصاص ثروات المنطقة في خطة منظمة الرابح فيها هو الغرب الاستعماري. وكما يبدو واضحا من سير الأحداث فإن منطقة العالم العربي لن تستطيع قريبا التخلص من شبحي الحرب والإرهاب، بل ستظل موضع اهتمام الغرب حتى تنضب ثرواته وينقل الغرب اهتمامه إلى منطقة أخرى من العالم تستطيع أن تجلب له ما توفره له حاليا منطقة العالم العربي. وحتى يحدث ذلك فإن على العالم العربي ألا يضع آمالاً كبيرة على خطط التسوية والسلام فكلها كلام في كلام.
التعليقات