الآن وقد رجحت كفة الرغبة البشَّارية على التحفظات البوشية ـ الشيراكية، وتم التمديد وفق الاصول الحكومية والبرلمانية اللبنانية الاضطرارية للرئيس اميل لحود، المتبقي على ولايته الحالية بضعة اسابيع، نصف ولاية مدتها ثلاث سنوات، أجيز لنفسي كأول صحافي في لبنان يبادر إلى تأليف كتاب عن الرؤساء الذين حكموا لبنان بدءاً بالأول شارل دباس، في زمن الانتداب الفرنسي، وصولاً إلى الرئيس شارل حلو الذي تسلم الرئاسة من الرئيس فؤاد شهاب يوم 23 سبتمبر (ايلول) 1958، وكصحافي يواصل الاهتمام منذ أكثر من أربعين سنة بالشأن العربي ومن المحيط إلى الخليج، وتسنت له متابعة طبائع الحكام وتقلبات الرؤساء والانقلابات على بعضهم فضلاً عن استفتاءات المبايعة ودائماً بنسبة تتجاوز التسعين في المائة... الآن وقد دقت ساعة الاستحقاق الرئاسي قي ظل لحظات مصيرية يعيشها لبنان، دون سائر دول المنطقة، والذي يتفرد بظاهرة تجمع بين الترئيس والترؤس في وقت واحد، أجد نفسي أوجز لقارئ «الشرق الأوسط» قضية الانتخابات الرئاسية في لبنان، شارحاً في حدود المستطاع ظاهرة الترئيس بفعل الإرادة الخارجية، والترؤس بمعنى ارتضاء الترئيس، وألغاز حمى المعركة الرئاسية التي تتجاوز درجة حرارتها أحياناً درجة حرارة الصراع على البيت الأبيض، وبالذات بالنسبة إلى الرئاسة الحالية المتزامنة جولات الصراع عليها مع جولات الصراع على الرئاسة اللبنانية.
ومن المصادفات ان ولاية الرئيس اللبناني اميل لحود تنتهي مع انتهاء ولاية الرئيس جورج بوش الابن، وان الاثنين عازمان على ان تكون لهما ولاية رئاسية ثانية: ست سنوات للرئيس اللبناني واربع للرئيس الأميركي.
بداية أرى ضرورة التوضيح بأنني قبل أربعين سنة، بحثت كصحافي يشق طريقه، عما يجيب عن اسئلة وتساؤلات تتعلق بالذين ترأسوا البلاد، خصوصاً ان كثيرين تنقصهم مثلي الإجابات. وعندما اقترحت على ناشر جريدة «النهار» غسان تويني، التي كنت بدأت العمل فيها، فكرة كتابة سلسلة تحقيقات مصورة عن رؤساء لبنان، شجع الفكرة وقال انه يفضل ان يكون هذا العمل هو مادة الكتاب الأول الذي يصدر في سلسلة «كتاب النهار» المنوي إطلاقها، وجعلني هذا أندفع في اتجاه الإسراع في تحضير المادة.
ولهذا الغرض أجريت لقاءات مع الذين كانوا ما زالوا على قيد الحياة، وهم الرؤساء بشارة الخوري وكميل شمعون والفرد نقاش، يروي لي كل منهم كيف حكم ولماذا لم يقتنع بولاية واحدة (بشارة الخوري وكميل شمعون) وكيف استسلم للأقدار (الفرد نقاش) فارتضى ان يعمل كرئيس مصلحة، بعدما كانت سلطات الانتداب الفرنسي عينته يوم 24 اكتوبر (تشرين الاول) 1941 رئيساً للجمهورية، واستمر في منصبه حتى 18 مارس (آذار) 1943. وأما الاموات من الرؤساء وهم الرئيس الاول شارل دباس (من 26 مايو (ايار) 1926 الى اول يناير (كانون الثاني) 1934)، واميل اده (من 20/1/1936 الى 4/4/1941)، وبترو طراد (رئيس دولة من 22/7/ الى 21/9/1943)، فقد زرت منازلهم والتقيت بأفراد من عائلاتهم (ابناء. بنات. احفاد. اقارب). كما انني امضيت ساعات أسأل رؤساء حكومات وشخصيات سياسية مرموقة عملوا مع اولئك الرؤساء او ناصبوهم الخصومة، والتقيت ايضاً الذين كانوا على احتكاك يومي بهم، مثل الحلاقين وصانعي القهوة والشاي وصانعي الطرابيش التركية والقبعات الافرنجية والخياطين ومدراء المطاعم، وذلك لأنني كنت حريصاً على الامور الانسانية والشخصية للرؤساء الذين حكموا لبنان، حيث ان عقلية الرئيس تُعرف من خصاله الشخصية.. تماماً مثل الرسالة التي كما يقول المثل الشعبي تُعرف من عنوانها. وكنت أدون ما أسمع بدقة واطلب من المؤرخ الثقة الدكتور يوسف ابراهيم يزبك، الذي وضع في تصرفي الكثير من الاوراق والوثائق والمعلومات، أن يؤكد لي صحة هذه المعلومات او بعض التفصيل عن تلك الواقعة. وفي نهاية الأمر وجدت امامي في المشهد الرئاسي اموراً كان يمكن ان تبقى مجهولة، لولا المبادرة المتعلقة بإلقاء الضوء على هؤلاء الذين حكموا سعيدين او تعيسين. ومن جملة ما في المشهد المشار اليه ان الرئيس الاول شارل دباس كان ارثوذكسياً، ولم يكن مارونياً. ولعل هذه السابقة هي ما جعلت زميلنا ناشر «النهار» غسان تويني يتطلع الى ان يكون رئيساً للجمهورية بعدما بات لبنان في زمن الاستقلال، إلا ان ما يتمناه الارثوذكسي في هذا الشأن، وكان جائزاً في زمن الانتداب الفرنسي، لا يدركه في الزمن التالي بعد الاستقلال عام 1943، ثم بعد اتفاق الطائف الذي ثبت الرئاسات أدق تثبيت، وبما يشبه دق المسامير في البوابات الصعبة. وبهذا التثبيت ضاعت نهائياً على وليد جنبلاط، وكما ضاعت من قبل على والده، التطلعات بأن يتسلم رئاسة الحكومة او رئاسة البرلمان، وهما رئاستان جرى ايضاً تثبيتهما بحيث ان رئاسة الحكومة للطائفة السنية، ورئاسة البرلمان للطائفة الشيعية.
ومن جملة ما في المشهد الرئاسي ايضاً ان زوجة شارل دباس كانت فرنسية، وان الانتداب الفرنسي عيّنه مرتين رئيساً للجمهورية، على نحو تعيين سلطات الاحتلال الأميركي في الزمن الحالي للرؤساء في العراق، وانه قبل تعيينه كان محرراً في جريدة تصدر بالفرنسية. ومن خصاله انه كان يميل الى العزلة وصاحب ضمير ومتقشف ويكتفي براتبه كرئيس للجمهورية، وانه لم يستعمل سيارة الرئاسة إلا عند قيامه بالوظيفة، وقياساً بمواكب رؤساء ايامنا هذه، فإن الرئيس اللبناني الاول في تاريخ الجمهورية كان من نوع استثنائي، من دون ان يعني ذلك انه لم يتحمل الابتعاد عن كرسي الرئاسة، بدليل انه حتى وهو مريض في باريس عام 1935، كان يمني النفس بالعودة الى لبنان رئيساً. مريض ويحلم بالعودة؟ يا لهذا الطمع في المنصب الذي لم يدم لأحد حتى يدوم لآخر.
من جملة ما في المشهد الرئاسي ايضاً من ملامح انسانية وشخصية، ان الرئيس الثاني حبيب باشا السعد كان اول مسيحي في الشرق الاوسط يحظى من الباب العالي (اي تركيا ذات الشأن وليست تركيا مهيضة الجناح بعد ذلك) بلقب باشا. وهو بعدما بات «باشا» صار مسكوناً بالاسلوب التركي من حيث الاناقة والطربوش على الرأس، وبمثل أناقة آخرين من الجيل التالي أبرزهم: رياض الصلح وصائب سلام وتقي الدين الصلح وبطرس الخوري. وهو مثل الرئيس الخلف شارل دباس نأى عن جمع الثروة، بدليل ان أرملته عاشت بعد وفاته على معاش تقاعدي زهيد بالكاد يعيلها. وبعد حوالى 68 سنة على ترؤسه البلاد تحاول السلالة السعدية من خلال عضو البرلمان فؤاد السعد المنضوي تحت الزعامة الجنبلاطية الدرزية لجبل لبنان، طرح نفسه كمرشح لرئاسة الجمهورية خلفاً للرئيس اميل لحود ، وضمن قاعدة ان كل ماروني مرموق له فرصة طرح نفسه كمرشح.. اما الفوز فمسألة اخرى.
بالنسبة الى الرئيس الثالث في زمن الانتداب الفرنسي اميل اده، فقد كان ابنه ريمون وابنه الثاني بيار هما مصدر ما عرفته عن والدهما الذي كان الأول الذي يأتي الى الرئاسة من البرلمان. وعندما دخل البرلمان كان لا يحسن التكلم بالعربية، إلا انه بعد عشر سنين صار يرتجل بالعربية ويستشهد بالشعر العربي. وعلى رغم ما قيل عن الفرْنَسة الإدِّية، والتي كان ينزعج الابنان ريمون وبيار من المثيرين لها في مناسبات لها صفة الافتعال، فإن ما يُحسب للرجل هو أن المعاهدة اللبنانية ـ الفرنسية التي تعترف باستقلال لبنان، ومن بنودها المادة 6 و6 مكرر التي تعني توزيع المناصب في الدولة على الطوائف بالتساوي وضعت في عهده. ورغم رفض البرلمان الفرنسي للمعاهدة، إلا ان الغمز من قناة الفرْنَسة الإدِّية استمر قائماً وبالذات من جانب زميله المحامي الشيخ بشارة الخوري الذي ورث الرئاسة منه، وكان بذلك اول رئيس للبنان المستقل. وتثير الدهشة طبيعة الاحقاد في نفوس المتصارعين مثل الذي حدث بين بشارة الخوري واميل اده، وإلى درجة ان الاول، وبعدما بات رئيساً للبلاد، منع الأهالي من تشييع جنازة الثاني من منزله في بلدة صوفر التي كان يصطاف فيها الى مدافن العائلة في بيروت، وذلك بعد وفاته يوم 27 سبتمبر 1949 .
ومن غرائب المصادفات، ان اميل اده وُلد في دمشق، وانه بعد الحكم عليه بالإعدام هرب الى مصر. وهذا الهروب هو ما كاد يحدث لابنه ريمون الذي نبهه الرئيس انور السادات الى احتمال اغتياله في بيروت عارضاً عليه الإقامة في مصر، إلا ان الابن الذي كان اسمه في استمرار وارداً، كأفضل مرشح لرئاسة الجمهورية آثر الإقامة بعيداً كثير البعد عن سورية، ومن اجل ذلك اختار باريس مكاناً لإقامته، وفي فندق متواضع بقي فيه الى ان وافته المنية وتم نقله الى بيروت حيث جرى دفنه الى جانب والده، بينما شقيقه بيار توفي ودفن في البرازيل. ولأن ريمون اده لم يتزوج فإن السلالة الثانية متمثلة بكارلوس اده نجل بيار اده هي التي تحاول ان تكون لها فرصة الترؤس ذات يوم.
وتبقى في معرض الحديث عن بعض خصال الرئيس ما قبل الاخير في زمن الانتداب، الاشارة الى انه كان من المحامين البارزين ووفياً لصداقاته وتلك صفة عمل الابن ريمون على ترسيخها.
ولهذه التأملات حول الرئيس للبنان، بفعل الارادة الخارجية والترؤس بمعنى ارتضاء الترئيس، بقية تتعلق برؤساء مرحلة الاستقلال بدءاً من المرحوم بشارة الخوري ، وصولاً الى الرئيس الحالي اميل لحود ، مروراً بالمرحوم كميل شمعون والمرحوم فؤاد شهاب والمرحوم سليمان فرنجية (الجد) والمرحوم الياس سركيس والمرحوم بشير الجميل وشقيقه امين الجميل والياس الهراوي.