قلت يوما: اخشى على لبنان ولا اخشى على اللبناني. قلت ذلك يوم كان الاقتتال بين اللبنانيين محتدما، وخطر الانقسام ماثلا، والعدوان الاسرائيلي جاثما. لبنان كان يواجه خطر التمزق والتفتت مجتمعا ودولة.

اما اللبناني، فكان منه المقاتل الذي يسجل انتصارات مبينة قصفا على الاحياء الآهلة، وذبحا على الهوية ونهبا للامتعة والممتلكات، ومصادرة للسلطة. اذ يتحكم في حياة المواطنين في ارزاقهم واقامتهم وتنقلهم، لا بل في حريتهم وكرامتهم. كان المقاتل اللبناني يرفل في فيض من العز الزائف. اذا لقي المواطن الآمن حتفه كان في عداد ضحايا عدوان الطرف الآخر. واذا لقي المقاتل مصرعه، فهو شهيد القضية، والقضية في الوطن الصغير كانت قضايا، عددها يوازي عدد اطراف النزاع. كانت القضية، في اوضح معانيها، وجهة نظر، وكانت وجهات النظر ترجمة لمصالح آنية، تُسمّى ثوابت وطنية، والوطن منها براء. وكانت للمقاتلين قيادات تحتكر الوطنية على مستوى الحي او القرية او البلدة او المدينة. الزعيم كان اميرا في محيطه الضيق، منتحلا صفة الرمز في وقت كان التشرذم، بإسم الذود عن الوطن، يتهدد مصير الوطن.

اما اللبناني الكريم الذي عفّ عن الولوغ في رزايا الزمن الرديء وموبقاته ومحظوراته، فلم يكن له حساب، فبقي على هامش الحياة، مهملا منسيا. ومن كان يتمتع بالقدرة والكفاءة عمد الى الهجرة الى حيث حفظ حياته وكرامته ووظف طاقاته في عمل منتج مكّنه من اعالة من بقي من ذويه في ارض الوطن. وكان هذا من اسباب عدم وقوع انهيار اجتماعي في لبنان رغم استشراء الفقر والبطالة.

من هنا قولي: اخشى على لبنان ولا اخشى على اللبناني. الوطن مهدد في كيانه ووحدته وعافيته، والمواطن افقه يترامى على امتداد الدنيا طولا وعرضا.

لبنان بلد صغير، حجمه الاقتصادي والسياسي اكبر من حجمه البشري او الجغرافي. وذلك بفعل انتشار اللبنانيين في الاغتراب، كما بفعل نظام الحرية الذي اضفى على لبنان دورا اعلاميا ودورا مصرفيا، اعظم كثيرا من حجمه. فصحافة لبنان تلعب دورا مشهودا على الصعيد الاقليمي والى حد ما على الصعيد الدولي، وفضائياته سجلت انتشارا مرموقا على الصعيدين العربي والعالمي. وباتت بيروت تشكل موئل استقطاب لوسائل الاعلام العالمية في تغطية تطورات المنطقة برمتها.

كذلك الجهاز المصرفي اللبناني، فقد اكتسب بفعل حرية التحويل والايداع حجما يتعدى كثيرا ما تقتضيه حاجات الاقتصاد اللبناني، اذ باتت المصارف العاملة في لبنان تستقطب سيلا عارما من الودائع العربية، وقد تنامى هذا السيل بفعل المضايقات التي يلقاها المودع العربي في مصارف اوروبا واميركا حيث يخضع لتحريات وتعقيدات تمليها سياسة مكافحة تبييض الاموال التي تلتزمها الدول هناك، فكانت مبالغة في تطبيق املاءات هذه السياسة آلت الى تنفير الرساميل العربية فصب بعضها على مصارف لبنان حيث القيود في حدودها الدنيا.

لعل لبنان غدا مستهدفا بما اكتسب من حجم على وجه الخصوص. ربما لأنه انموذج غير مستحق في المنطقة، مع العلم ان لبنان لا يشكل حالة فريدة في تضخم حجمه الاقتصادي او الاعلامي او السياسي الى ما يتعدى حدود حجمه الديموغرافي او الجغرافي. مصر جمال عبد الناصر اكتسبت حجما سياسيا على الصعيد الدولي يتعدى كثيرا حجمها الجغرافي او الديموغرافي او الاقتصادي بفعل سياسة عدم الانحياز التي التزمتها عالميا. قطر اكتسبت حجما اعلاميا وبالتالي سياسيا لافتا بفعل فضائية الجزيرة . اتحاد الامارات العربية اكتسب حجما متميزا عبر بروز امارة دبي انموذجا نادرا للانفتاح والنمو والحيوية. واكتسبت المملكة العربية السعودية حجما مميزا على المستوى الدولي بفعل مواردها النفطية الغزيرة، وهي في طريق تعظيم حجمها الاعلامي وبالتالي السياسي عبر فضائية العربية . وسوريا اكتسبت حجما سياسيا على الصعيدين الاقليمي والدولي ابعد من حجمها البشري او الجغرافي بفعل العلاقة المميزة بينها وبين لبنان. فرنسا كبرت بعلاقاتها الفرنكوفونية عالميا، وبريطانيا كبرت باستتباعها للدولة العظمى اميركا. وقس على ذلك كثيرا من الحالات المتفاوتة في العالم.

كثيرا ما تكون الصراعات الدولية وليدة تصادم الاحجام. كذلك كانت حرب السويس، في ما سمي العدوان الثلاثي على مصر، عام 1956. كذلك كانت حرب اميركا على العراق اولا لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي عام 1990، ثم مرة ثانية عام 2003 لاسباب لم تنكشف حقيقتها كاملة بعد. وقد يكون من الدوافع اليها الغاء قوة عسكرية كانت اسرائيل تتخوف منها، او إحكام السيطرة على صناعة النفط في الشرق الاوسط انطلاقا من العراق، او ارهاب سائر دول المنطقة بهدف اخضاعها لاملاءات السياسة الاميركية حيال تسوية النزاع العربي - الاسرائيلي، او خلاف ذلك.
بالعودة الى منطلق هذا البحث، لا بد من طرح السؤال: متى نطمئن الى مستقبل لبنان فتنتفي معادلة الخوف على لبنان وليس على اللبناني ؟ فلا يكون خوف لا على لبنان ولا على اللبناني؟

لن يكون ذلك الا في حال استتباب حال الوفاق الوطني بين اللبنانيين في كنف ممارسة ديموقراطية سليمة تؤمن آليات المساءلة والمحاسبة على كل صعيد، كما مسالك التطور والتغيير على وجه سلمي ومنتظم. وهذا يستدرج سؤالاً آخر هو: ألم يتحقق الوفاق الوطني بين اللبنانيين عبر اتفاق الطائف عام 1989، والذي كان من شأنه انهاء حال الحرب والاقتتال؟

الأدلة على عدم ترسخ قواعد الوفاق الوطني بين اللبنانيين منذ انتهاء الحرب لا تعد ولا تحصى، وكان آخرها، ولعل ابلغها، البيان الصادر في 1/9/2004 عن اجتماع المطارنة الموارنة برئاسة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير. فقد عبر البيان ابلغ تعبير، من جهة، عن حالة التململ والتذمر لا بل والرفض التي تسود قطاعاً واسعاً من الساحة السياسية في لبنان، ومن جهة اخرى عن حالة الانقسام التي تستبد بالساحة السياسية حول قضايا مهمة تفرز مواقف المواطنين حولها فئوياً في حالات كثيرة.

لعلنا لا نجانب الحقيقة اذا قلنا ان الوفاق الذي عقد بين اللبنانيين عام 1989، وكان له فضل انهاء حال الحرب التي استمرت زهاء خمسة عشر عاماً، كان مبنياً على نوع من توازن اللا رضى، ان صح التعبير، بمعنى ان جميع الاطراف خرجوا على شيء من عدم الرضى عن حصيلة تلك العملية، بمعنى ان ليس بين الفئات اللبنانية من كان راضيا عن نصيبه من المعادلة او مكتفياً به، خصوصاً على مستوى توزع السلطات في كنف النظام الطائفي المعتمد. فكان الاستقرار الظاهري تعبيراً عن توازن اللا رضى بينهم. والحل الامثل المنشود لن يكون الا بالتوصل الى صيغة تضمن توازن الرضى بين الفئات اللبنانية، حيث يكون الكل راضياً عن نصيبه من المعادلة مكتفياً به.

اما كيف ننتقل من توازن اللا رضى وبالتالي الاستقرار السياسي والاجتماعي الوطيد، فالتحليل يقودنا بالضرورة الى الرهان على العمل المنهجي على تجاوز الحالة الطائفية في السياسة، وعلى ترسيخ قواعد الممارسة الديموقراطية الصحيحة، وعلى ايجاد الحلول الناجعة لقضايا تهدد المجتمع، بما فيها قضية المديونية وعجز الخزينة، وقضية الركود الاقتصادي والبطالة في صفوف اليد العاملة، وقضية الفساد المستشري على كل صعيد وفي كل مجال. هذا يتطلب وجود طبقة حاكمة اصلاحية، لا يكون الاصلاح على حساب مصالحها او كيانها او مبرر وجودها بل يكون الاصلاح قضية لها والتزاماً. فأين لبنان من هذا المبتغى؟