حسين جلعاد: يرى الشاعر السوري علي سفر أن المزاج العام للقارىء العربي قد مال في السنوات الأخيرة صوب حالة من الركود الفني واقتصر على استهلاك التجارب المنجزة دون رغبة للاجتهاد في القراءة، وهو ما يفسر - حسب رأيه - جانبا من أزمة تفاعل الذائقة العامة مع محاولات التجريب وخصوصا تجربة قصيدة النثر العربية.
ويؤكد الشاعر سفر في معرض التعليق على صدور ديوانه الجديد «اصطياد الجملة الضالة» أن مغامرته الكتابية ذاتية، فهو لا يراهن على الذائقة الجماعية أو السائدة، ويشدّد على أن الكتابة الشعرية ابنة حقيقية لمجمل الاستخلاصات المعرفية والفلسفية والفنية لمفهوم الحداثة المتغير والمتبدل، لافتا إلى انه «ليس بمقدور الكاتب على العموم أن يفرمل إيقاعه بشكل ذاتي من أجل الذائقة السائدة».
يذكر أن الشاعر سفر من مواليد 1969. درس الأدب العربي ولم يكمله وتخرج من قسم الدراسات في المعهد العالي للفنون المسرحية وعمل في المسرح وفي الكتابة الصحفية وفي الإخراج التلفزيوني صدرت له أربع مجموعات شعرية هي: «بلاغة المكان» 1994 و«صمت» 1999 و«يستودع الإياب» 2001 وأخيراً «اصطياد الجملة الضالة» 2004.
«الرأي» التقت الشاعر في مدينة دمشق، وكان معه هذا الحوار:
* تنتمي كتابتك إلى قصيدة النثر وظهر في ديوانك الجديد ترسيخ لخياراتك الشعرية في هذا الصدد، كيف ترى إلى استقبال الذائقة العامة لذلك، وأين أصبحت شعرية قصيدة النثر برأيك؟
- قبل عشر سنوات ظهر كتابي الأول «بلاغة المكان " ضمن هذا الحقل النوعي من الكتابة الشعرية وقد قوبل الكتاب بترحيب شديد من قبل الأوساط الثقافية هنا، ورغم أنه كان خالياً من أية بنية إيقاعية إلا أن القارئ تفاعل مع هذه الكتابة الشعرية النثرية، ولكن ذلك لم ينسحب على كتابي الثاني الذي ظهر بعد ست سنوات والذي حمل عنوان «صمت» ...والذي حوى جرعة أكبر من المغامرة النثرية.
* لماذا حدث ذلك برأيك؟
- أعتقد أن المزاج العام للقارئ في المشهد الشعري السوري و العربي عموماً قد مال في السنوات الأخيرة من القرن الماضي صوب حالة من الركود الفني ضمن الحالة الشعرية وذهب كثيراً نحو استهلاك التجارب المنجزة وعدم الرغبة في الاجتهاد في القراءة، وفقاً لذلك أمسى التجريب الذي قمت بتصوره في كتاب «صمت» وكذلك في كتاب «يستودع الإياب» شبه منقطع العلاقة مع القارئ الذي يبحث عن القراءة السهلة وهكذا كنتَ ترى الكتابة الشعرية التي تكتب على مبدأ شعرية اليومي هي السائدة وهي الشعر وليس غيرها وطبعاً انسحبت أسماء عديدة من المشهد قد تكون كتاباتها أشد شعرية ومجازية و لكنها تجرب في اللغة ولا تستكين لليومي السهل، لتحل بدلاً منها أسماء أخرى اشتهر أصحابها كممثلين لجيل التسعينيات الشعري في سورية.
لقد اختصر المشهد الشعري على عدد من الأسماء لا يتجاوز عدد أصابع اليد بينما يحفل الواقع الشعري بعشرات الأسماء التي لا يتاح لها وطيلة سنوات طويلة أن تنشر كتيباً واحداً وطبعاً لا يقتصر المشهد على شعراء يكتبون قصيدة النثر بل ما يزال هناك من يكتب القصيدة العمودية وهم من جيل التسعينيات وهناك من يكتب القصيدة المفعلة وعليه فإن قصيدة النثر في ساحة معركة حقيقية من حيث إثبات ألذات أمام الذائقة التي تتلقى الشعر ضمن مجمل من العناصر البصرية والسمعية ولا يتاح لها أن تتوقف أمامه ملياً كي تتأمله مما يجعلها تستسهله كأي جرعة عابرة.
* يلاحظ في قصائدك الجديدة ميل كبير للصورة الشعرية المركبة حتى تبدو أحيانا فانتازية، أو صعبة، أليس في ذلك مغامرة خصوصا في غياب الإيقاع الشعري بمفهوم الذائقة السائدة؟
- المغامرة هنا ذاتية وأنا لا أراهن على الذائقة الجماعية أو السائدة، وعلى الكتابة الشعرية أن تكون ابنة حقيقية لمجمل الاستخلاصات المعرفية والفلسفية والفنية لمفهوم الحداثة المتغير والمتبدل في هذه الأزمنة، فهل يستطيع الكاتب أو الشاعر على العموم أن يفرمل إيقاعه بشكل ذاتي من أجل الذائقة السائدة ..؟ لا أعتقد ذلك وفي الآن ذاته لا أشدد على نفور وتميز التجربة بحجة الذاتية كي لا أبدو مغروراً بكتابتي.. فهذا أمر خاص مثل قرارك بأن تكتب الشعر وليس غيره من فنون اللغة ولكن القصة بما فيها أنك تجرب في الكتابة الشعرية وفقاً لمقولة أن الشعر فن لغوي يستند إلى المجاز وهذا المفهوم هو الذي يملي على العقل خياراته فيما يخص بنية الصورة وتعقيدها أو بساطتها و تبعاً لتصوري للمجاز وضروراته يبدو فهمي الشعري لبنية الصورة معقدا وغير سهلٍ للآخرين ولكنني أراه ومن خلال مدركاتي وأحاسيسي الذاتية غير ذلك.. وعلى فكرة هناك الكثير من الشعر الذي يكتب حالياً على مبدأ شعرية البساطة وشعرية اليومي لا يبدو مخلصاً للشعر قدر إخلاصه للمحكي وللثرثرة وقد يبدو البعض الأخر من الشعر والذي يسعى كاتبه إلى زرع الدهشة في النفوس ساذجاً و مملاً لشدة تكرار صوره بين الشعراء .. فهل يجب علي أن أبقى ضمن الموجة كي أرضي الذائقة السائدة ..؟
* الحب والمرأة ظهرا في ديوانك الجديد بشكل أكثر ملموسية مم ظهرا في أعمالك السابقة.. ما الذي يتدخل في مزاج الشاعر ويدفعه للبوح؟
- الأمر يعود للتجربة الذاتية بكل تأكيد ففي الماضي كان الهاجس هو محض اللغة و البحث عن الموقع ضمن اللوحة السائدة .. حتى وإن تجلى الأمر بقصائد تعاني ما تعانيه و غير متفاعلة مع الواقعي الإنساني وقد ظهر هذا في الكتابين الثاني والثالث رغم كون المرأة والحب هما عنصران أساسيان في موضوعاتهما ولكن تكنيك الكتابة كان يفضي إلى حالة من البلاغة تجعل منهما كائنات ورقية أكثر منا واقعية أو حقيقية ..و لكن كتابي هذا وأقصد «اصطياد الجملة الضالة» وبتأثير من نومه في الدرج سنوات عدة بسبب المنع من الطباعة كما تعرف .. خضع لعدة تأملات وعدة قراءات جعلتني أخلصه من الكثير من المطبات السابقة وأهمها حالة البلاغة الزائدة عن الحاجة التي كانت وبحسب العديد ممن قرأ الكتب السابقة ترهق القارئ أكثر مما ترهق الشعر ذاته وعليه فإن ما تسميه جملة معقدة هاهنا هو جملة أشد بساطةً من خامة النص ذاته وأعتقد أن توسع إمكانيات القراءة بسبب من توفر آليات الاتصال جعل النص متداولاً بين عدة قراء قبل القيام بطباعته وبشكل توفرت من خلاله آليات القراءة والقراءة المضادة وهذا ما خلص النص من طغيان اللغة وأفسح المجال لتلمس الإنساني فيه أكثر.
* تميل في بعض قصائدك إلى تقديم فنانين بلوحاتهم أو أسماء شعرية عالمية فيما يلاحظ انك تنحت صورك بخصوصية عالية، قد تخلو تماما من ذاكرة اللغة، هل تسعى إلى لغة نظيفة _ إن جاز التعبير- وهل ذلك مستطاع حقا ؟
- حتى وإن كنت أحاول ذلك فإن هذا شبه مستحيل ..ولكنه هاجس مشروع بالنسبة لجيلنا كله..فهذا الجيل مهزوم على كافة الأصعدة فلماذا لا ينتصر عبر المشروع الشعري الذاتي.. البحث عن ضفاف جديدة وعبر لغة نظيفة هو جزء من الاشتغال والإخلاص للذات وللمشروع الإنساني الذي تبنى عليه التجربة فلماذا لا نكون عبر هذا .. لا أرغب بالتنظير للأمر ولكنك كشاعر تقرأ ما لا يقرأ الآخرون وتدرك أنك صورة لحجر منحوت في قعر المحيط أو لصخرة مهشمة على سطح القمر فلم لا تكون جملتك خاصة وعالمية في أن معاً...
* تبدو القصيدة العربية السائدة _ خصوصا تيارها النثري _ ميالا إلى تسجيل تفاصيل الكائن الشخصية، فيما تدعو أصوات بارزة من ممثليها إلى التخلص من سلطات الايدولوجيا والمجتمعات، وكل ما هو سائد.. كيف ترى المسألة؟
- لكل شاعر دوافعه التي تضعه أمام خيارات خاصة أو عامة والبحث في التفاصيل الخاصة بالكائن أمر حقيقي وهو جزء من خطاب الشعرية الحديثة على مستوى العالم كله ولكن عبر رؤى وزوايا مختلفة .. وليس لأحد أن يلزم الآخرين بشكل محدد للكتابة الشعرية، بل إنني أرى أن الاختلاف بين الشعراء في البنى والأساليب هو معيار للحالة الصحية التي تعيشها اللغة والأمة الناطقة بهذه اللغة وحين نستخلص من انتشار شعر التفعيلة وشعر القصيدة العمودية بالتجاور مع قصيدة النثر شيئاً من ملامح التعددية الما - بعد حداثوية يصبح لزاماً علينا النظر للاختلاف في الرؤى الخاصة بقصيدة النثر على أنه جزء من جدية مشروعها الذي لن يتوقف أمام تجربة أو عدة تجارب بارزة لروادها ..!
* ما هو تقييمك لتجربة ما يطلق عليه جيل التسعينيات الجدد وكيف ترى تأثيره في تيارات القصيدة العربية سواء في سوريا أو في عموم الوطن العربي؟
- جيل التسعينات ليس حالة منقطعة عما سبقه من أجيال ولكنه أكثر هذه الأجيال تأثراً بحالة الخراب التي عايشتها الأمة بأسرها في عدة مراحل من تطوراتها فهو الجيل الذي رافقت ظهوره الأحداث الجسام التي أثرت على مخيلته فبدا للآخرين متطرفاً وقصياً في مشاريعه اللغوية الطامحة وقبل أن نرى تأثيره في تيارات القصيدة السائدة علينا أن نرى مدى تأثره بها كحالة سائدة ..؟! ولكنني أجزم أن للتجارب المغامرة في هذا الجيل أثرا حقيقيا سيظهر لاحقاً وسيشكل حالة من الانعطاف في المخيلة الشعرية العربية في هذا القرن الجديد سيما وأن مفهوم التسعينيات لا يزال مستمراً ولم ينته عبر نهاية القرن فالأصوات التي خرجت في هذه السنوات (وأقصد قبل نهاية القرن) تجد تجوهرها وتكرسها في هذه المرحلة وليس في الزمن الذي مضى وهي أصوات شابة حقاً عبر المفاهيم التي تطرحها قصيدة التسعينيات.
- آخر تحديث :
التعليقات