الجديد في حملة اليمين الأمريكي لتقييد حرية الأشخاص وحقوقهم وخصوصياتهم هو هذا العقد الذي تكلف 15 مليار دولار لبناء شبكة من مصارف وقواعد معلومات مهمتها تتبع الزوار والسائحين الذي يصلون إلى أمريكا. تبدأ عملية التتبع قبل سفر هؤلاء الزوار من بلادهم، وتستمر خلال سفرهم، وتتواصل خلال إقامتهم في الولايات المتحدة، وتبقى معهم لفترة غير قصيرة بعد عودتهم من الولايات المتحدة. يغطي هذا النظام الأمني ثلاثمائة نقطة حدود جوية وبحرية وبرية تتقصى من أين جاء هؤلاء الزوار وإلى أين هم ذاهبون في الولايات المتحدة الأمريكية وأي تهديد يمثلون وماذا ينوون عمله بعد الزيارة. وقد اهتم الكونجرس وجماعات الحقوق الأمريكية بهذا النظام منذ بدأ مشروعاً في مكاتب وزارة الدفاع في أعقاب 11/9/2001 وأطلقوا عليه “زيارة الولايات المتحدة” وكان السؤال الحساس وقتها إن كانت هذه الشبكة ستمس خصوصيات الزوار القادمين من الخارج. كان الهدف من هذا البرنامج تحقيق قفزة هائلة في مهمة “حماية الوطن” عن طريق استبدال الحدود الفعلية المادية بحدود خائلية باستخدام شبكة كبيرة من الحواسيب وأدوات الاستشعار وخصوصاً البيولوجية. وتقرر أن تنتشر هذه الشبكة بحيث تغطي مواقع القنصليات الأمريكية في الخارج وأي أماكن أخرى للحصول على التأشيرات، وتغطي بعد ذلك كافة المواقع التي سيذهب إليها أو يعيش فيها الزائر.
في السابق كان حارس الحدود هو أول خط دفاع لحماية الولايات المتحدة والأمة الأمريكية من زائر معاد. الآن أصبح هذا الحارس هو آخر خط في حماية الولايات المتحدة من الزائرين المشبوه فيهم. إذ يكون الزائر قد مر بعشرات الحراس “الخائليين” في القنصليات والبعثات الدبلوماسية والمراكز الاستخباراتية ومكاتب ووكالة التحقيقات الأمريكية في الخارج، وكذلك الحراس في داخل الولايات المتحدة. وبذلك، وبفضل هذه الحراسة المتقدمة لن تتجاوز مهمة حارس الحدود في أمريكا مجرد التأكد من أن هذا الشخص هو نفسه الذي يدعي أن يكون. وفور مغادرته هذا المخفر من مخافر الحدود سواء كان مطاراً أو ميناء أو مدينة على حدود المكسيك أو كندا تبدأ حملة منسقة وبوسائل خائلية لتتبعه فلا يخطو خطوة في الولايات المتحدة الأمريكية إلا وهي محسوبة ومحسوسة في مكان آخر قد يبعد عنه آلاف الكيلومترات. أذكر أنهم فعلوا شيئاً مماثلاً مع المليونير السعودي عدنان خاشقجي عندما أفرج عنه بكفالة في نيويورك وكان مازال رهن التحقيق، إذ سمحوا له أن يتجول في نيويورك بشرط أن يضع على معصمه سواراً مصنوعاً من معدن مخلوط بمواد مشعة تبعث بإشارات إلى جهة مركزية تتتبع تحركاته. أصبح كل ما يفعله الزائر، بفضل هذه الوسائل وغيرها من الوسائل الأحدث، في متناول أجهزة الأمن الداخلي التي تعمل من خلال شبكة تغذيها عشرون قاعدة معلومات مرتبطة ببعضها وتتتبع 300 مليون زائر سنوياً. هذا البرنامج يعني بشكل آخر أن النظام الأمني في الولايات المتحدة استطاع في ظل نظام ديمقراطي أن “يؤمم ويؤمن” الزائر الأجنبي. فالحدود الأمريكية توسعت بفضل هذا البرنامج حتى وصلت “خائلياً” إلى حيث انطلق هذا الزائر في رحلته إلى الولايات المتحدة. الحدود الأمريكية حسب النظام الجديد، تبدأ في المكان الذي يطلب الزائر فيه تأشيرة دخول الولايات المتحدة. ويظل داخل هذه الحدود ما دام كان على سفر. ولا يفترق عن هذه الحدود إلا بعد وصوله عائداً من رحلته إلى بلده بفترة قد تطول أو تقصر. الحدود والزائر، حيثما يكون، لا يفترقان.
هذه الصورة أشبه ما تكون بشبكة أبراج مراقبة الطائرات. إذ تبدأ علاقة الطائرة ببرج المراقبة وهي مازالت على أرض المطار، أي قبل إقلاعها. لا تتحرك إلا بإذن من البرج وبعلمه، يتتبع حركتها على الأرض ثم في الجو، إلى أن يسلمها إلى البرج التالي. فهي إذاً لا تختفي من شاشات هذه الشبكة من الأبراج. كل برج يسلمها الى برج آخر. ولا يجوز أن تخرج الطائرة عن نطاق الشبكة، أما إن حدث وخرجت فالمؤكد أن تعلن الشبكة حالة طوارئ ويبدأ البحث عن الطائرة التي انقطعت اتصالاتها بالشبكة. صار المواطن، والزائر لأمريكا خاصة، مثل الطائرة غير مسموح له بالخروج عن نطاق الشبكة المخصصة لتتبعه. وإذا خرج أو خرجت انطلقت أجهزة الإنذار تحذر من كارثة محتملة.
يتجمع لدى شركات المعلومات الأمريكية كم هائل من المعلومات عن المواطن كنتيجة منطقية لاستخدام بطاقات الائتمان البلاستيكية. هذا الكم الهائل يمكن أن تستفيد منه شركات التسويق والإعلان وكافة من لهم مصلحة في معرفة أدق التفاصيل عن كل مستهلك. يبدو هذا المشروع مفيداً في مجتمع تسود فيه السوق وتهيمن على كل شيء وتخضع فيه منظومة الأخلاق إلى منظومة السوق. إلا أن الإحساس بخطورة امتلاك هذا الكم الهائل من معلومات شخصية وخاصة جداً عن أفراد المجتمع، يشغل بال قطاعات متعددة في الولايات المتحدة. كان يشغله قبل 11/،9 ثم تفاقم الأمر حين ظهرت مؤسسات بأغراض ومصالح ليست تجارية مثل الحكومة وأجهزة الأمن ووكالات الجاسوسية التي تصورت بعد 11/9 أن لها الحق في الحصول على أي معلومة عن أي إنسان واستخدامها من دون العودة إلى صاحبها. قيل وقتها إنه تطور خطر يخرق حقوق الإنسان الأمريكي الذي يكفلها له الدستور. ثم ازدادت الخطورة عندما أحكمت سيطرتها وهيمنتها على مقاليد الحياة في أمريكا جهات شديدة التطرف اليميني والديني، ومعروفة شكوكها في جدوى الأساليب الديمقراطية خصوصاً في أوقات الخطر وعدم الاستقرار. بل إن هذه القوى الحاكمة المتطرفة لم تتردد عندما لاحظت حجم معارضة المواطن الأمريكي لإجراءات تقييد حرياته والتعدي على خصوصياته فلجأت إلى سياسة ترهيب المجتمع بادعاء، عن حق أو غير حق، أن خطر الإرهاب دائم وداهم، وأن المواطن الأمريكي إن أراد السلامة فعليه أن يأتمن هذه القوى الحاكمة اليمينية على خصوصياته ويتنازل لها عن كثير من حرياته. تأخذها لتفعل بها ما تريد لتحقيق أهداف أخرى خططت لها منذ زمن غير قصير، وبعضها أهداف لا علاقة لها بالأمن أو الإرهاب، مقابل وعد منها بأن تحمي أمريكا من ابن لادن ومن “القاعدة” ومن “محور الشر” ومن هجوم نووي وكيماوي ومن صدام حسين، ومن أخطار أخرى تستجد دائماً.
هي الآن تستعين بهذا الكم الهائل من المعلومات الشخصية الموجودة لدى الشركات. وتعد قانوناً سيعرض على الكونجرس ومجلس الشيوخ يجيز لأجهزة الحكومة الارتباط بشبكات معلومات أجهزة الأمن في الحكومة الدخول مباشرة على شبكات معلومات هذه الشركات والحصول منها على ما تريد. حدث منذ أسابيع قليلة أن طلبت أجهزة الأمن من نقابة معلمي الغوص معلومات عن كل متدرب تلقى تدريباً على الغوص في الولايات المتحدة. وبالفعل قدمت النقابة ملفات بمعلومات عن مليوني متدرب. ومازال الكونجرس يعارض إنشاء جهاز فيدرالي تابع لوزارة الدفاع يتتبع كافة الاتصالات التي يقوم بها المواطن الأمريكي والاطلاع على نوعية ما يبحث عنه في الشبكة الإلكترونية وبريده الإلكتروني وحساباته المصرفية وزياراته للطبيب ورحلاته الداخلية والخارجية وطلبات التأشيرات واستخراج الجوازات. هذه المقاومة من جانب الكونجرس هي التي دفعت الحكومة لإعداد تشريع جديد يسمح لها بالدخول مباشرة على قواعد معلومات الشركات والجامعات والمستشفيات. حيث توجد بالفعل معظم المعلومات الشخصية جداً عن المواطن، فالمواطن لا يتردد في إعطاء الشركات معلومات شخصية عنه ولكنه يتردد في إعطائها للحكومة. هنا يمكن لهذا اليمين المتطرف أن يستغل هذه المعلومات ضد الذين يمارسون الإجهاض أو الشذوذ الجنسي أو انتقاد “اسرائيل” أو خصوم اليمين الأمريكي أو أعضاء الكنائس المتبرمة من هيمنة المسيحيين الصهيونيين، وضد السياسيين والنواب والشيوخ والإعلاميين وضد المهاجرين إلى أمريكا والزوار المقيمين فيها، وضد أي احتمالات مستقبلية لا يمكن التنبؤ بها الآن. ولكن يمكن بسهولة تصور ماذا يمكن أن يستفيد المتحكم في هذا القدر غير المسبوق من المعلومات عن المواطنين لخدمة أغراضه، سواء كانت هذه الأغراض تخدم سلامة الإمبراطورية الأمريكية أو تخدم أهداف جماعة متطرفة تستولي بالتدريج على واشنطن لتنفذ مهام تخريبية فيها وفي أنحاء متفرقة من العالم.
***
لماذا اهتمامنا بما يحدث للديمقراطية وحريات المواطن وخصوصياتهم وأسرارهم في أمريكا؟ نهتم لأسباب أربعة على الأقل: أولها أن كثيراً من القرارات والسياسات الأمريكية صارت تمسنا مباشرة، مثلنا مثل عشرات من المجتمعات، وربما أكثر لأننا في رأي جماعة الحكم في أمريكا نمثل خطراً مباشراً، ولأن لمنطقتنا مكانة خاصة عند القائمين على قطاع السياسة الخارجية الأمريكية، وخصوصاً لدى جماعات المحافظين الجدد وغيرهم من أنصار اليمين المتشدد. لذلك نهتم، ونهتم الآن أكثر لأن أمريكا على أبواب انتخابات رئاسية ستفرز قيادة تحاول ترشيد السلوك الإمبراطوري أي بغطرسة أقل وتفهم أكثر أو قيادة تواصل ثورة الثور الهائج في هذا العالم الزاخر بالخزف.
ثانياً: نهتم لأن النخب السياسية الحاكمة في عالمنا العربي، وكذلك الإسلامي، متخوفة من النموذج الديمقراطي الأمريكي، وفي الوقت نفسه متطلعة إليه، وتزداد تطلعاً كلما أصاب مكروهاً مؤسسات الديمقراطية وممارساتها في أمريكا. يتجدد الأمل عند هذه النخبة أن حملة الإصلاح عليها ستخف وطأة مع كل تقييد لحريات المواطن الأمريكي وخصوصياته. أظن أنها لا تعرف أن لا صلة مباشرة بين حملة الإصلاح في الشرق الأوسط وأصول الديمقراطية أو ممارساتها في أمريكا.
ونهتم ثالثاً، لأن أكثر المتفائلين بمستقبل تسود فيه درجة أكبر من التحرر السياسي في العالم العربي يخشون عواقب استحكام دائرة الخوف المتبادل بين العرب والمسلمين من ناحية والأمريكيين من ناحية أخرى. فالخوف يدفعنا ويدفعهم إلى مزيد من تقييد الحريات. وفي الناحيتين، هنا وهناك، توجد قوى سياسية تعتقد أن الشعوب الخائفة تطمئن إلى الاستبداد وعدم التغيير وترفض تداول السلطة. والشعب الأمريكي خائف هذه الأيام.
ونهتم رابعاً، لأن التجربة الأمريكية الراهنة رائدة بكل المعاني، وسيكون لتطوراتها ونتائجها آثار بالغة العمق والاتساع على العالم بأسره، إذ لم يحدث من قبل أن اجتمعت الشمولية والديمقراطية في نظام واحد. وإن اجتمعتا فسيكون لهما شأن عظيم في التاريخ السياسي العالمي.
التعليقات