قررت ان لا انافس السياسيين، اي رجال، وحتي نساء السياسة، التي كانت بالامس القريب تخرج علي مولاها عندنا، فانقلبت تعود عليه، سبحان الله، بالخير العميم، انه موسم الدخول المدرسي والسياسي والثقافي معلق الي السماء السابعة في انتظار الساعة ـ وسأتركهم يدخلون لينفخوا اوداجهم ويسخنوا حناجرهم، وليبرزوا العضلات الايديولوجية والمخططات الاستراتيجية، هم الذين يملكون الغيرة علي الموطن والانسان من دون الاخرين، اي مثلي. ادرك انهم يهادونني يتسلون بي احيانا، ويسخرون او يشفقون علينا نحن الذين نتكفي من غنيمة الدنيا المتاحة لهم بأن نعبث بالكلمات، وننسج الاسلوب ونصوغ ما نشاء من الاوهام، اما هم، اعزك الله، فيقبضون علي الحقيقة التي تزهق اباطيل الكتاب الذين لا يملكون؟ ان هم ملكوا، الا الخيال.
سأكيل الصاع صاعين لهؤلاء السياسيين، سأتركهم يدخلون تباعا. الحزب بعد الحزب، والزعيم يلي الزعيم، والوزير حذو الوزير، سأتمتع بعودتهم متدافعين بالمناكب او في المواكب، مستنهضين الهمم او متوعدين بالنقم، ليثبتوا انهم ما زالوا في اعلي عليين والا عادوا الي حيث كانوا، في اسفل سافلين. سأتأكد سريعا من اكتمال الصف والدخول الحثيث لا اشك فيه، والاطارات البركة، وادير حولهم الطوق واغلق كل الطاقات، وعندئذ سيبقي الخارج كله لي، لنا جميعا، نحن الذين نسير سير السلحفاة ولم ننخرط بعد في اي سباق. هي متعة فريدة وحرية بلا حدود، بأن نمتلك الخارج كله لك، بوسع الارض وانفساح السماء، وما بينهما، الفراغ الفارغ المتسع، الحامل وحده لكثافته وظله وصمته، ملء يديك وطوع بصرك، لك وحدك والقلب باق في يساره منغمرا في بحبوحة الرضا. نبضة وسكينة منه ووقدته او رماده فيه، له الحلم كما يريد في المدي الذي يصنع والوجوه التي يعشق دائما آتية.
ماذا يفعل الداخلون بمثل هذا الكلام؟ السياسيون المحافظون والتقدميون المشتركون والمنفصلون الذين يريدون الخير والعبث الرغيد لابناء المعمورة وكذا لمتعطل مثلي يهدهد خساراته امام هؤلاء الناجحين الذين اغلقوا عليهم نوافذ العالم وصاروا في الداخل تماما لانهم ببساطة ـ ومن غفلتي ـ مشغولون بمعالجة مصير الوطن، ومصيري ايضا فيالخيبتي انا المرمي في الخارج. علي كل فأنا جالس الآن في مكان لن يتضايق من وجودي فيه احد، خاصة من بين هؤلاء المشغولين بمسؤوليات والغارقين في اختصاصات لا انازعهم فيها، وهم يدركون بحسهم الوطني العالي انها ليست مبذولة للناس كافة. لكنني، ومن باب المناكدة، سأتصرف بجد، رغم انني ما زلت خارجا، اي متعطلا، سأسجنهم في سؤال صغيرهم الكبار، والكبير هو الله دائما.
سأسأل: الا ايها الداخلون ماذا اعددتم لنا نحن الطائعين، الطيعين لم نطالبكم باي حساب قبل خروجكم، المؤقت طبعا، لانكم عدتم بالسلامة ومقاعدكم هي وارائككم الوثيرة تغوصون فيها مع لهيب مطامحكم حتي العنق. واذا، كفي، ماذا اعددتم لهذه الرعية المسالمة حد الضجر؟ سأعفي الجميع من الخطب الرنانة بعد مصادقة الملة السياسية علي وأد الكاريزما.. سأمضي في اعلان البرامج واعداد الخطط فهذه يتكفل بها عادة سدنة وتقنيون يروضون كالقردة شريطة السماح لهم دائما بوضع اختامهم وتوقيعاتهم اسفله. وبالمقابل اتعهد والتزم بالشرف، الذي لم يبق لنا منه كثيرة ان اشاهد كل ما يعرضه التلفزيون من نشرات وتحقيقات تظهر فيها التدشينات والمنجزات. وكيف تتلي البلاغات ويتم الادلاء بالتصريحات والتوقيع بالاحرف الوسطي علي الاتفاقيات، وذلك، وذلك مثلا، في انتظار ان تقوم الدنيا بعد صدور التعليمات. سأنتبه الي شيء واحد ما دمت اليوم رائق المزاج، وهو نوع الضحكة، ولون الابتسامة ونبرة الكلمة، وعرض الرقبة وايقاع الحركة، ومقاس الخطوة، ودرجة مكر النظرة، للواحد الداخل، للمجتمع المؤله تقريبا العائد بسلامته الي مرتع الامر والنهب بعد ان اختلط بسبب اكراه العطلة بأنفاس المارة، والسلام الاضطراري مثلا، علي اولئك المناضلين القدامي، ما زالوا متشبثين بمعتقداتهم او سذاجاتهم القديمة. ولن اكذب احدا في الاخير لانني لم اصدق احدا في الاول، الا اعتقادي الساذج طبعا.
لا يظنن احد اني نسيتهم، في غمرة هذا الدخول، الزمرة التي تريد ان ترجع التاريخ عنوة الي الوراء، وتتعلم من جديد كيف تلعق الاحذية للسادة الجدد، ما دام كل شيء اليوم جديدا. لهؤلاء موعد وشيك حين ستشرع جمعية الضرب بالنعال في ممارسة وظيفتها التاريخية بترخيص. وبما ان صبري محدود فقد قررت ان انفس عن مكبوتي، وان اعوي، مثل اي ذئب في البراري، من باب التخويف فقط، والا فان احببت اكل اللحم النيء فنفسي تعاف الجيفة، فيها ما يلعق الاحذية. اردت، اذن، ان اعوي لكن صوتا وشوش خافتا ينهاني عن ذلك، انتبهت انني لست في خلاء ولا غابة لاطلق العواء، تذكرت اني وصلت منذ يومين الي (لابُول) قادما من باريس. تذكرت اني هنا في هذه المدينة الاطلسية جنوبي اقليم البروتاني، التي يمكن ان يغار منها الحلم. صديق ارشدني اليها قال انها مناسبة لمن يحتاج لملء عينيه بالمدي وشحذ جوارحه بالريح، فهي تتلاعب هنا علي مدار السنة بالبحر والسحاب واشجار السنديان ولا تكف ترحل في سنابك الخيل ومراكب البحارة، فيما هي مقيمة في عيون عاشقات متكتمات وموائد حافلة بالمحار والشراب.
عاد الصوت يوشوش حين هممت بالغناء، فأنا ثمل بأريج البحر، كنت احرك لساني في الفراغ فأتذوق ملوحته، ونبهني الصوت باشارة الي مسكن صغير رجلاه ممدوتان قبالة الشاطيء وكتب علي جبينه الابيض عبارة بالازرق: مسكن الريح ، زاد الصوت شارحا: ها أنئذا تري ان للريح مسكنها ايضا، وهي الان نائمة بعد ان اعولت احسن ما يرام، وانت وصلت متأخرا. عد في العام القادم، انما الا تخبرني ما صنيعك بها وريح الامريكان تعصف بأمتك، واخري عاتية تتربص ببلدك. قلت يا صوت: خلاص، انا سلمت، وما اريده منها ان تكون ذلولا فأصل بأسرع وقت الي من احب حين احب. فتحت نافذة من المسكن وتطايرت منها ورقة التقطتها ومنها قرأت: خذ طريقك، طريق قلبك وواصل، وفي منتصف الطريق ستجد مسكن الاشواق استرح فيه وانتظرني فمن هناك سنعلن دخولنا بقبلة عارمة.
*كاتب من المغرب
- آخر تحديث :
التعليقات