... كنت غادرت مكتبي في الطبقة التاسعة من النهار حوالى الساعة الرابعة من بعد الظهر عائدا الى منزل اهل زوجتي الكائن في ضاحية بيروت الشمالية وتدعى الرابية. كنا نقيم عند اهل زوجتي (حيث ولدت لنا بنت في حزيران 2001) في السنة الاولى التي اعقبت زواجنا في ايلول من العام الذي سبق، وكنا في انتظار تسلم شقتنا الجديدة في وسط بيروت التجاري في ساحة الشهداء التي ظلت على تسميتها الاولى من دون ان يعود اليها تمثال الشهداء رمز لبنان الوطني (ثم عاد واعتقل في ثكنة الكرنتينا).

في الطريق المؤدية الى شارع الحمراء الواقع في قلب ما كان يسمى ايام الحرب اللبنانية بيروت الغربية، الى منطقة الرابية على مسافة بضعة كيلومترات في قلب ما كان يسمى ايام الحرب المنطقة الشرقية، ادرت الراديو، وكالعادة كنت استطيب الاستماع الى الفترات الاخبارية للـ بي بي سي العربية والانكليزية على السواء. فالاذاعة البريطانية مدرسة في العمل الاعلامي، وهي بلا ادنى شك احد اهم الادوات المهنية للصحافي. فبين دقة الخبر، وشمول التغطية وموضوعيتها وصولا الى استقلاليتها، لم اشذ شأني شأن الملايين في المنطقة وعبر العالم عن الركون الى تلك المحطة.

كان الاستماع الى الاخبار في السيارة بالنسبة اليّ، وسيلة فضلى للاطلاع والتفكير مليا بموضوع اختاره في ما بعد للكتابة عنه في مقالي الذي لم اكن اهم بكتابته قبل المساء. ثم ان الاستماع الى الاذاعة، وبالتحديد الى النشرات الاخبارية على اختلافها، كان ولا يزال عامل توازن في شخصيتي المسافرة على اثير الموجات الاذاعية بما يتجاوز السفر على اجنحة الطائرات نفسها. (خلال الحرب اللبنانية، وفي الفترات التي كنت اعود فيها الى لبنان دأبت في اكثر الصباحات على الجلوس في مقهى دبيبو في رأس بيروت المشيد فوق ابعد نقطة صخرية بيروتية داخل البحر. كنت اجلس لأدخن نارجيلة مع قهوة صباحية مُرة، وعلى الطاولة نوعان من القراءات: الاول لبناني محلي مكون من الصحف المحلية النهار ، السفير وغيرهما، والآخر اجنبي مكون من مجلات فرنسية مثل لوبوان و الفيغارو ماغازين و باري ماتش ، واميركية مثل تايم و نيوز ويك (كنت ولا أزال اجمعها في مجلدات)... ولكن ما كان يميز جلستي في دبيبو آنذاك كان جهاز الراديو الحاضر دائما، ليس لسماع اخبار الوضع اللبناني امنا وسياسة، وانما لسماع اذاعة فرنسا الدولية بالفرنسية على الموجة القصيرة المشوشة دائما، والى صوت اميركا بالاميركية على الموجة المتوسطة، وبالطبع الى لندن بالانكليزية. كنت اسافر على موجات الاذاعة، واتماهى مع قضايا داخلية وتفصيلية في حياة فرنسا او اميركا العامة عبر تلك الاذاعات... كانت وسيلة من وسائل التطلع والحلم بحياة عادية وسط الحرب والدم والدموع والدمار...

بالعودة الى ذلك الثلثاء من ايلول 2001، ادرت الراديو. كان الخبر بالعربية يتحدث عن ارتطام طائرة بمبنى التجارة العالمي في نيويورك. وكانت الرسائل الصوتية من المراسلين لا تزال تتناول الموضوع باعتباره حادثا، ولكن الحادث لم يكن اعتيادياً، فلا المبنى كان عاديا، ولا المدينة كانت عادية: انها نيويورك عاصمة العالم الاقتصادية، والمدينة التي لا تنام. المدينة التي اكتشفناها باعتبارها مدينة التطرف في كل شيء. التطرف في الصخب، والتطرف في الجريمة، والتطرف في الاعمال، والتطرف في الفنون، والتطرف في البطر، والتطرف في الثقافة، والتطرف في الاحجام، والتطرف في العمارة، والتطرف في العنف... لقد كانت نيويورك تفاحة (رمز المدينة) بالنسبة الينا نحن في الشرق، حتى الذين عاشوا في اوروبا ردحا طويلا من الزمن، غوثام سيتي او مدينة الرجل الوطواط باتمان الخيالية حيث لا يوازي اثارة الخيال سوى الاحساس بالسحر والمهابة اللذين تولدهما العواصم الامبراطورية. هكذا كان الامر بالنسبة الى روما الامبراطورية، وهكذا كان بالنسبة الى بغداد الخلافة، وهكذا كان بالنسبة الى القسطنطينية ومن بعدها اسطنبول... كل يوم يسمع المرء بسقوط طائرات وموت العشرات. ولكن ليس في كل يوم يسمع المرء نبأ ارتطام طائرة بمبنى في مدينة، واي مدينة... احسست ان الخبر لم يكن عاديا، ولكني اعترف باني لم اشك لحظة في اني مثل سائر الناس على المعمورة كنت اعيش هنا في لبنان البلد الصغير لحظات تاريخية مفصلية...

ما ان بلغت المنزل حتى هممت بالصعود الى غرفتي وارتميت على الفراش بمواجهة جهاز التلفزيون على محطة سي ان ان . هنا بدا لي المشهد بكل حجمه: الكاميرات مسلطة ليس على مبنى واحد وانما على مبنيي برج التجارة العالمي، والدخان يتصاعد من جزئيهما الأعليين. والمحطة تعيد بث شريط ارتطام الطائرتين مرة تلو مرة. اول ما فكرت به في تلك اللحظة ان اتصل بزوجتي التي كانت تزور مع والدتها جدتها، ولم اجد ما اقوله لها سوى كلمتين من دون مقدمات: اديري سي ان ان ولا كلمة! . سألت بحشرية وبرودة ما الامر. اعدت الكرة: اديري سي ان ان ولا سؤال ! ثم اقفلت الخط لاتفرغ بكل حواسي لمشهد سوريالي مريع مخيف ومثير في آن واحد.

مرت خمس دقائق واتصلت زوجتي لتسأل: ما هذا؟ ماذا يجري؟ فأجبتها: يحصل ما ترين مباشرة على جهاز التلفزيون. لم اجد كلمات اصف بها المشهد. لقد كان المشهد حلما. وانا افرك عيني مرة تلو المرة، ولا اصدق ما ارى بالطبع. ومع مرور الوقت ازدحمت محطات العالم اجمع بالمشاهد والرسائل الوصفية، والتحليلات، واكثر ما اذكر رسائل الصحافية الاميركية بولا زاهن على سي ان ان حيث وقفت في الطبقة الاخيرة من برج قبالة البرجين المصابين، وهي تصف مرة بعد مرة، ما كانت وما كنا نشاهد. هكذا تابعنا ارتماء اجساد من اعلى البرجين هربا من ألسنة اللهيب، وارتطام طائرة اخرى بمبنى البنتاغون في واشنطن، وسقوط طائرة رابعة في سهول ولاية بنسلفانيا على مسافة بضع دقائق طيران من قلب العاصمة الامبراطورية. وفهمنا ان ما يحصل لم يكن حادثا عرضيا. فسقوط البرج الاول ومن ثم الثاني تباعا مباشرة على الهواء وسط عاصفة غبار اقرب الى النووية امام عيون سكان المعمورة، جعل من الحدث حدثا كونيا بامتياز، مثلما جعلني، كما مئات الملايين من البشر، اقرب الى حالة الخاضعين للتنويم المغناطيسي نكاد لا نقوى على مفارقة جهاز التلفزة الا لنهرع الى الهاتف للاتصال بكل مخلوق نعرفه لتبادل الدهشة واياها. الدهشة فقط. (شقيق زوجتي كان في رحلة الى اسطنبول ولما عاد الى غرفته في الفندق ادار جهاز التلفزيون فوقع على المشاهد. لم يشعر انه على الهواء مباشرة، وظنه فيلما هوليووديا، فبدل المحطة ولم يتبدل المشهد... نيويورك وواشنطن، دائما نيويورك وواشنطن.

لقد شعرت يومها، ولم اكن الوحيد، اني اعيش لحظات تاريخية نادرة. حاولت ان اعود بالذاكرة محاولا بالتخيل وضع الحدث في سياق تاريخي اوسع، ثم اوسع. اغمضت عيني مسترجعا صورة القرن الذي مضى. تخيلت القرن العشرين على شكل لوحة بيانية، ولكنني لم اجد سبيلا الى وضع مشاهد ذلك اليوم في سياق القرن الذي مضى. لقد كان ضرب برجي نيويورك ومقر البنتاغون حدثا لا مثيل له في التاريخ. كان سابقة بكل ما في الكلمة من معنى. ومعلوم ان التحليلات الاولى لجأت الى تشبيه هجمات نيويورك وواشنطن بهجوم بيرل هاربور في كانون الاول 1941 عندما باغت اليابانيون قاعدة بيرل هاربور الاميركية في جزيرة هاواي ودمروا الاسطول ال ذي كان يرابط فيها صبيحة السابع من ذلك الشهر. ثم اضيفت الى التشابيه على قاعدة ان الهجمات حصلت على الارض الاميركية، حادثة مهاجمة الاسطول الملكي البريطاني لواشنطن العاصمة الناشئة عام 1812، واحراق البيت الابيض. لقد كان هجوم 1812 آخر مرة استهدف فيها التراب الاميركي بالمعنى الضيق للعبارة، اي في القلب. اما بيرل هاربور فقد حصل على مسافة تزيد على الفي كيلومتر عن شواطئ كاليفورنيا.

اضحت شاشات التلفزيون، ولأيام وايام، مكرسة للهجمات. وبتنا اسرى الصورة نرفض الخروج، ونرفض مشاهدة فيلم، ونرفض التفكير باي شيء آخر. وحده البث المباشر سكننا ولم يغادرنا لمدة لم تكن قصيرة. وصار موضوع هجمات نيويورك وواشنطن الموضوع المركزي في احاديث الناس في الشارع، كما في صالونات السياسة. والحال اني كعربي ومشرقي مؤمن بالتنوع، والتعددية، وبالانفتاح، وبالتلاقح الفكري والثقافي شعرت مع الحادي عشر من ايلول 2001 ان عالما تهاوى، وان عالما آخر بدا في التشكل على انقاض فكرة العالم الواحد. شعرت اني كإنسان عربي بت على تماس مع النار، والدماء، والدموع. شعرت اني واحد من ابناء جيل سيشهدون من المقاعد الامامية على عالم يتغير... شعرت اني اعيش في عالم متغير، عالم سيكون علينا ان نستكشفه يوما بعد يوم. وهو عالم سيكون مجبولا بالدم في عالمينا العربي والاسلامي.

() مقطع من مقدمة اطول لكتاب علي حماده الذي يصدر قريبا بعنوان: 11/9 11/3 عالم تغير ، وينشر بالذكرى الثالثة لهجمات الحادي عشر من ايلول 2001.