كان احتدام الصراع بين الرؤيتين العلمانية والدينية في منطقتنا إحدى أهم النتائج الثقافية التي ترتبت على الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001. وهناك مفارقة مدهشة في هذا السياق ألا وهي أن الخطاب الاميركي الذي اختزل الصراع العالمي بعد هذه الواقعة في الصراع ضد الارهاب, وجعل من ملاحقته أسامة بن لادن, ومنظمة "القاعدة" دراما عصرنا, هو نفسه الخطاب المسيحي - الصهيوني الذي يصوغه المحافظون الجدد والذي يقسم العالم بين خير وشر ويتحدث عن الرؤيا ويرى الاسلام عدواً.
ارتبطت العلمانية بالحداثة والمواطنة, وما زالت منطقتنا التي لم تعرف الثورتين الصناعيـــة والديموقراطية تتعــثر حتى الدخول الى الحداثــة, وتنشئ معادلات خاــصة بها بين الوفرة التي راكمها الضغط الى بقاء النظم الاستبدادية, وما زال المواطن الفرد عاجزاً عن التحرر من قبضــة الجماعة التي تنزع منه حرمته واستقلاله وتمنحه الحماية. لكنّ هذه المعادلة انفجرت بعد الحادي عشر من ايلول, وأصبحت النظم عاجزة حتى عن تقديم الحماية.

وبقي الصراع بين الرؤيتين الدينيــة والعلمانيــة للعــالم قائمــاً مع عدم التكافؤ بين طرفيــــه لمصلحة الرؤية الدينية التي ارتبطت بمشروع الإسلام السياسي للعودة الى الماضي. واستفادت من المناخ العالمي بقــدرة هذا المشروع على استثمــار الازمة الاجتماعية الاقتصادية الشاملة, وبـــرز كطــرف اساس فــي معركــة التحرر ضد الاستعمــار العسكــري المباشر في فلسطين والعراق. وزادت ايضاً قدرتــه علــى النفــاذ الــى خلايــا المجتمــع. وينعكس الصراع بين الرؤيتين الدينية والعلمانية انعكاساً مباشراً على كل قضايا تحررنا الرئيسة من قضيــة تحريــر المرأة الى حرية الفكر والاعتقاد الى تجديد الخطاب الديني. ويدور الصراع على كل هذه المستويات ويشغل حيزاً اساسياً من الخطابات الثقافية الرئيسة الاربعة: الديني والليبرالي والاشتراكــي والقومــي. وإن كنا سنميـــز ظهــوراً اولياً لخطاب تحرير جديـــد يتأسس على ثقافة المقاومة ضد الاستعمار بعد احتلال العراق يسعى لتمييز نفسه عن الخطاب الديني السائد وهو ما سيدعم الرؤية العلمانية وإن على المدى الطويل ولا تزدهر الا في ظل الحريات العامة والديموقراطية.