حاولت الإدارة الأميركية منفردة إنهاء ظاهرة الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز الذي جاء الى رئاسة إحدى ابرز دول «الأوبيك» فما استطاعت الى ذلك سبيلاً، وحسم ثناء الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الذي ترأس فريق الإشراف على الانتخابات، الأمر بشهادته التي تضمنت الإشادة بنزاهة العملية الانتخابية، واضطرت الإدارة الاميركية نتيجة ذلك الى بلع الإخفاق والقبول باستمرارية شافيز رئيساً بفعل الخيار الديمقراطي.. من دون أن يعني ذلك أن البوشيين في حال تجددت الولاية الرئاسية لهم لن يجربوا مرة أخرى إلحاق الأذى بالجنرال الأميركي اللاتيني، الذي أشهَرَ عليهم التحدي المثلث الأطراف: تحداهم بعلاقة متميزة مع الخصم التاريخي الرئيس الكوبي فيدل كاسترو الذي يزداد حكمه لكوبا رسوخاً، كلما تقدمت به السن وازدادت اللحية شيباً. وتحداهم باختراق العزلة الدولية على الحكم الصدَّامي خلال سنوات الحصار، عندما زار العراق من بوابة الزمالة النفطية، حيث أن البلدين عضوان في «أوبيك» وحاول إشراك صدَّام شخصياً في القمة النفطية التي استضافها في كراكاس، لكن التمثيل جاء على مستوى الرجل الثاني. وتحداهم بالترويج لثورية معتدلة ترتاح لها شعوب دول أميركا اللاتينية، وترى فيها غيفارية جديدة ومتجددة.. وهو ما لم يتحمله كواسر الإدارة البوشية.
وقبل أيام اقتحمت الإدارة البوشية الحالة اللبنانية ـ السورية، ونقلت موضوع الانتخابات الرئاسية اللبنانية الى مجلس الأمن الدولي، الذي ناقش مشروع قرار أميركي ـ فرنسي مشترك، أحدث صدمة في نفوس أهل الحكم في سورية ولبنان، رغم التعديل الذي تم إدخاله عليه مخففاً من خشونة مفرداته، لجهة اعتبار الوجود السوري في لبنان احتلالاً، وتصنيف الدولة الشقيقة للبنان على أنها دولة أجنبية، وتحديد سقف زمني من اجل أن تنتهي في أيام علاقة عمرها ربع قرن. وكل ذلك لأن الحكم السوري اختار ضمن التقليد المتبع منذ توْلِيَة إلياس سركيس رئيساً للجمهورية يوم السبت 8 مايو (أيار) 1976، التمديد للرئيس اللبناني الحالي الجنرال إميل لحود. واستوجبت ذلك إجراءات رسمية اتسمت بالسرعة القياسية، تمثلت في قرار لمجلس الوزراء بتعديل مادة في الدستور يمكن في ضوئه التمديد ثلاث سنوات لرئيس الجمهورية، ثم في جلسة تصويت مماثلة على المشروع من حيث السرعة لجلسة مجلس الوزراء. وبعد هذه الجلسة ثم الجلسة الوقورة للبرلمان حيث صوَّت 96 نائباً مع التمديد مقابل 29 عارضوا، بات التمديد حالة قائمة، ودخلت التحديات حلبة الصراع المحلي ـ الإقليمي على الحكم والصراع الدولي على لبنان. وكان لافتاً في هذا الشأن أن نوعاً من انحسار سمة التميز في العلاقة السورية ـ الفرنسية، والسورية ـ الإسبانية قد حدث وهو ما بدا انتكاسة للرهان على الموقف الأوروبي كنصير للخصوصية اللبنانية ـ السورية. ونقول ذلك على أساس أن نوعاً من التوحُّد غير القابل للتفكك حدث بين أميركا والدول الأوروبية، وأن هذا التوحُّد الذي لم يحدث بسبب الموضوع العراقي حدث بغرض إضعاف سورية كرقم صعب في الوضع الراهن في المنطقة، والذي جعل التحمل ممكناً للصدمة الناشئة عن الانسجام المفاجئ للصديقين اللدودين الرئيس جورج بوش الابن والرئيس جاك شيراك هو أن سيناريو اختيار إميل لحود لنصف ولاية قد تمتد نصفاً آخر بحكم الأمر الواقع، والتعود اللبناني على ظاهرة البقاء الطويل للحاكم في سدة الحكم، وهي الظاهرة المألوفة في الجمهوريات العربية، لم يأخذ في الاعتبار الكبرياء اللبناني وبذلك بدا التكبر السوري طاغياً أكثر مما هو متوقع.
وهذه النقطة بالذات تجعلنا نتساءل:
ما الذي كان يمنع أن تقوم القيادة السورية بزيارة الى لبنان، وتنعقد في رحاب السراي طوال يوم تشاوري طويل لقاءات مبثوثة مباشرة على الهواء، وتتعلق بالوضع الراهن والولاية الرئاسية الجديدة بحيث ينتهي التشاور الى التمديد أو التجديد أو اختيار رئيس جديد، بدل الأسلوب الذي تم اعتماده، وهو انتقال أقطاب الحكم ورموز «اللوبي» السوري في المجتمع السياسي اللبناني واحداً تلو الآخر إلى دمشق؟
وما الذي كان يمنع تفادياً للحساسية أن تتم معاودة الاستنباط الناصري الشهير الذي حدث عام 1958، عندما ارتأى جمال عبد الناصر رئيس دولة الوحدة المصرية ـ السورية أن يلتقي برئيس لبنان الجنرال فؤاد شهاب داخل خيمة منصوبة على الحدود، نصفها على ارض سورية ونصفها الآخر على ارض لبنانية، وبذلك يبدو الأمر وكما لو أن عبد الناصر جاء الى لبنان زائراً ومجتمِعاً برئيسه، وأن فؤاد شهاب جاء الى سورية زائراً ومجتمِعاً برئيسها؟
ومن الجائز القول إن مثل إحدى هاتين الخطوتين كانت ستجعل الصدور وقد خلت من الاحتقان. كما أنها كانت ستخفف الإحراج عن دولتين صديقتين مثل فرنسا إسبانيا، بحيث لا تشارك الأولى في تحمُّل عبء مشروع قرار قد يؤسس لتوتر دائم في العلاقة، ولا تقف الثانية عند التصويت الى جانب أميركا متناسية الأفق الرحب الذي باتت عليه العلاقة السورية ـ الإسبانية، وبالذات في العهد البشَّاري، فضلاً عن أن ظاهرة الترئيس كانت ستبدو أقل حدة مما جاءت عليه، بمعنى أن الانطباع السائد بأن سورية هي التي تختار أشخاص الرئاسات الثلاث في لبنان، الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، ليس بالحدة أو الشغف كما طوال سنوات الترئيس بفعل القرار السوري، بدءاً من ترئيس إلياس سركيس ثم ترئيس إلياس الهراوي فترئيس اللواء جميل لحود.
وقد يكون الذي دفع بالرئيس بشار، أو بالقابضين على ملف العلاقات مع لبنان، لعدم الأخذ بالخيارات المشار إليها، هو الخشية من مفاجآت كتلك التي رافقت اختيار بشير الجميل ثم شقيقه أمين الجميل ثم رينيه معوض لمنصب الرئيس، واحتمال حدوث صدمات كتلك التي كانت ستظهر في برنامج بشير الجميل، ثم ظهرت في برنامج شقيقه في شكل اتفاق ساداتي المنحى مع إسرائيل، ما لبث أن تم إسقاطه بفعل الرفض السوري ـ اللبناني له، وكادت تظهر في برنامج رينيه معوض كتوجه استقلالي يتطلع الى العلاقة المتوازنة مع سورية على نحو الرؤية الناصرية ـ الشهابية قبل 46 سنة.
خلاصة الأمر أن الحكم السوري أدار اللعبة على النحو المألوف عند تولِيَة إلياس الهراوي رئيساً يوم الجمعة 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، ثم عند تولِيَة اللواء إميل لحود قبل ست سنوات وتحت مظلة اتفاق الطائف الذي ما زالت قراءة أطراف المجتمع السياسي اللبناني له حافلة بالتفسيرات والاجتهادات. ومثلما تم التمديد ثلاث سنوات للهراوي، فقد تقرر أن يتم التمديد ثلاث سنوات للجنرال لحود. وبصرف النظر عن القبول والشكل وعملية الإخراج للقرار التاريخي، فإن هنالك أمور رافقت المسألة ومن شأن التوقف عندها بصيغة التأمل قراءة ما يمكن أن تحمله الأيام المقبلة بين ثناياها.
منها هو أن القوى التي تناصر لحود تجيز له القول إنه يمثل الأكثرية اللبنانية. فأقطاب الطوائف المسيحية معه وثلاثة أرباع الشيعة متمثلين بـ «حزب الله» وحركة «أمل» معه، وربع الطائفة السنية معه، والمؤسسة العسكرية معه وثلث الطائفة الدرزية معه. ولو كان غلاة التشدد الماروني معه بنسبة أكبر لما كانت لأصوات هذا الضجيج الدولي والرفض المسيحي المحلي أن تعلو. ومن المهم الأخذ في الاعتبار أن عنصرين بالغي الأهمية لعبا دوراً في عدم تفجُّر الأزمة. العنصر الأول يتمثل بتفهُّم رئيس الحكومة رفيق الحريري للأمور وارتضائه التمديد، مع انه كان يستطيع في حال استمر إلى النهاية على موقفه الرافض التمديد أن يُشعل الوضع السياسي ارتباكاً، وذلك لأن الطائفة السنية كانت ستبدو منقسمة ضد التمديد ومعه. أما العنصر الثاني فيتمثل في بقاء الزعيم الدرزي وليد جنبلاط معارضاً الى النهاية مشروع التمديد، وبذلك لم يعد غلاة التشدد الماروني هم وحدهم في الضفة الضد، الأمر الذي يعطي المعارضة بُعداً فئوياً طائفياً.
أما الأمر الآخر فهو أن يستبق الرئيس إميل لحود لحظة الخطر الذي قد يحدق بلبنان وسورية، فينأى عن ممارسة التمديد مكتفياً بأنه حصل عليه.
وتبقى لهذه التأملات بقية أخيرة حول القناعة بما قسَمَه الدستور وحول مخاطر عدم القناعة... ونكاد نقول انتساب الاستثناء الرئاسي اللبناني الى القاعدة الجمهورية العربية.