فيصل دراج: جاءت الأزمنة الحديثة, التي وضعت الإنسان في مركز المستقبل, بمصطلح متفائل هو: "محكمة التاريخ", التي تحكم بالعدل ولا تعرف المخادعة. كأن التاريخ, الذي أعاد الإنسان المبدع خلقه, يتقدم بلا خطأ ويحسب ولا يخطئ الحسبان. وعن هذا التحالف السعيد, بين إنسان يقود التاريخ وتاريخ يلبي حاجات قائده, صدر مفهوم التقدم, الذي يضع الآمال الإنسانية في مركب عاقل يسير الى مرفأ أمين. كان على المركب أن يحمل فوق ظهره "محكمة التاريخ", التي تدفن ما تقادم وتوزع ما استجد, مبشرة بزمن عالمي جديد, يستظل بالحضارة والمعرفة, ويعترف بالحضارات الإنسانية المتنوعة.

لم يكن جنود الإسباني كورتيز, حين وصلوا الى المكسيك قبل خمسمئة عام, واجتثوا التماثيل الذهبية المقدسة يدركون, ربما, أنهم يدهمون حضارة قديمة, بقدر ما اعتقدوا انهم يلحقون بالشر هزيمة أخيرة, وان استئصال الأشرار فعل لا عقاب له, طالما ان المهزومين "لا أرواح لهم". ولعل دعوى مواجهة الشر بالخير, التي يعلنها القضاة في "محكمة التاريخ" بصوت جليل, هي التي حومت, لاحقاً, فوق السفن التي تنقل "العبيد" من قارة الى أخرى, وسوغت مطاردة "إنسان الغابات", الذي أنكر أبجدية الإنسانية الجديدة, وصولاً الى فلسطين, التي اعتقد "روادها الجدد", أن أهلها يصلحون لتنظيف الأراضي العذراء من الأفاعي والعقارب. كان هناك, دائماً, معتقد الحضارة المتفوقة, التي تعيد هندسة العالم, كما يجب أن يكون, كي يغدو مسرحاً جديداً تخفق في ربوعه المدنية وروح المغامرة وأطياف الاصطفاء الطبيعي.

إذا كان للحضارة المتفوقة, بعيداً من مبادئ الأخلاق الساذحة, الحق في توسيع مكانها, كي تلقن إنسان الأزمنة الضيقة مبادئ تقربه من "الزمن العالمي" الجديد, فإن الخلط بين التفوق والانتصار أفضى, منذ اللحظة الأولى, الى زمن حديث هجين. فالتفوق يفترض, نظرياً, نقل المعارف الى آخر أقل مرتبة, ويأمر, في اللحظة عينها, بالاعتراف بالآخر والتعرف الى الأسباب التي منعت عنه ما يتمتع به المتفوقون. عندها يتساوى البشر, حتى لو كانت حضاراتهم غير متساوية, ويصبح امكان تجانس البشر حضارياً أمراً ممكناً. بيد أن هذه الفرضية, التي غفلت عنها "محكمة التاريخ", كانت تحتاج الى حضارة التسامح لا الى حضارة الانتصار. ذلك أن الحضارة الأولى تبدأ من مبدأ "الجوهر الإنساني", أسطورة كان أم حقيقية, على خلاف الحضارة الثانية التي تساوي بين الانتصار وتفاوت العروق, منتهية الى دعوى الإنسان الأعلى والإنسان الأدنى, التي تساوي بين القوة والحقيقة وبين الحق والانتصار. ولعل هذه الحداثة الهجينة, التي تحتفي بإنسان وتدمر آخر, هي في أساس سلطة "التسمية", التي تخترع "المتوحش, البربري, والبشر الذين لا أرواح لهم...", وتعالج "المسمّى" بأنواع البارود المختلفة. لهذا انطلق قارب التاريخ الحديث سعيداً, قاصداً المرفأ الذهبي الأخير, وتاه لاحقاً بين دخان الأسلحة وأناشيد المنتصرين.

*ذاكرة المغلوبين
بعد أزمنة كثيرة, لم تفلح أسلحة المنتصرين في اجتثاث ذاكرة المغلوبين, الذين لم يتفوّقوا ولم يفقدوا الذاكرة, وهو ما عبّر عنه فرانتز فانون في كتابه الشهير "المعذبون في الأرض", في نهاية خمسينات القرن الماضي, حيث "المعذّب" هو ذاك الذي مرت فوقه جيوش الانتصار وسلبته تماثيله المقدسة, والذي عليه أن يستعيد ما سلب منه, لئلا يظل "معذباً" لم تقضِ "محكمة التاريخ" في شكل عادل, ولم يحصل المعذب على ما أراد, وبقيت أزمنة "الإنسانية الجديدة" مجزأة, بعد أن حمل "مركب التقدم" بعض الإنسانية وترك بعضها الآخر في مواقعه المنكوبة, ولأن التاريخ العالمي لم يصل الى نهايته المنتظرة, انتظرت الإنسانية المنقسمة الخلاص في مرافئ متعددة. كان من المفترض أن تعلن الأزمنة الحديثة, التي قالت بالتاريخ العالمي والإنسان الشامل ونهاية البربرية, عن نهاية التاريخ, قبل أن تجعل من القرنين التاسع عشر والعشرين حقلاً شاسعاً لاختبار نهايات كثيرة. كان هيغل قد أغلق التاريخ وهو يرى الى "بونابرت" منتصراً فوق صهوة حصانه, حتى خذله الامبراطور الفرنسي ولاذ بـ"الدولة البروسية". جاء ماركس ووضع النهاية في مجتمع لا طبقات فيه, وتدثرت شعوب كثيرة بنهايات كثيرة, قوامها الاستقلال والتحرر واستعادة أطياف الأجداد المنتصرين. ولم ينسَ هتلر بدوره أن يصوغ نهاية للتاريخ خاصة به, ترى الى العرق الآري وترمي بما تبقى من الشعوب الى المحرقة. غير أن القرن العشرين الذي انتهى بعودة الى القـرن التاسع عشر, كما قال الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران, حسم الخصام على طريقـــته, وأخذ بيد "فوكوياما" الى محـــراب هـــيغل, كي يعــلنا معاً بلغة فلسفية مبتورة عن "نهاية التاريخ".

لم تكن نهاية التاريخ الجديدة إلا اعلاناً متفائلاً عن اندثار ذاكرة المغلوبين الى الأبد, كما لو كانت الأزمنة الحديثة قد أنجزت رسالتها, منتقلة من زمن الحداثة الى زمن ما بعد الحداثة, أو ناقلة البشر جميعاً الى أرض الخلاص الأخيرة. بيد أن سعادة الفيلسوف الأميركي ذي الأصل الياباني انتكست مرتين خلال عقد واحد من الزمن: انتكست أولاً حين أعلن أحد نظرائه عن "صراع الحضارات", لأن كلمة "الصراع" تعلن عن نهاية مؤجلة, وعن تاريخ مشتعل لم يُتح له بعد أن يخلد الى راحته الأخيرة. بل ان هذا الصراع, الذي انزاح من مستوى الطبقات الى مستوى الحضارات, لا يشير الى النهاية, ولا الى ما هو قريب منها, فهو يفترض نزالاً بين تواريخ بشرية متعددة الطبقات, تحتقب الحاضر والماضي والمستقبل معاً. ومع أن الصراع يستدعي كلمة أكاديمية مهذبة هي "الحضارات", فإن السياق الذي أملاها لا تنقصه الغطرسة, لأن الفصل عسير بين الكلام والجغرافيا وبين المتكلّم واستبداد المكان. أما المرة الثانية التي أقلقت سعادة فوكوياما فجلية في أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001, التي رأى فيها الراحل ادوارد سعيد ضربة قاصمة للآمال المعقودة على اصلاح العالم. هكذا لم ينتهِ التاريخ, بل سقط في ولادة عسيرة معوّقة, تطرد العقلاني المحدد, الذي حلم به ادوارد سعيد, وتطلق تجريداً كريهاً يلحق بالعالم كله أضراراً وبيلة. فقد أيقظت الأحداث, من دون جهد كبير, أطياف مجردات كثيرة مثل: الشرق, العربي, المسلم... رافعة بثقافة الكراهية الى مقامها الأعلى ومرسلة بالعقل الى منفى بعيد. فهذا العقل يأمر, نظرياً, الذين فاتهم الانتصار أن يركنوا الى منظومة فكرية عاقلة تنادي بالتسامح والمسؤولية الأخلاقية وبحق الشعوب جميعها بعيش كريم, بعيداً من ثقافة الكراهية, التي تخترع الآخرين وترمي عليهم ما شاءت من الألقاب, وبعيداً أكثر من ثقافة الموت, التي تزيد المغلوب غلباً, وتبرر مطاردته بلا رحمة أو حصانة.

*الحياة اختلاف
التفوق أم الانتصار والتبجح بالانتصار أم كلام المساندة؟ قد يتفوق تلميذ على غيره لأسباب كثيرة, من دون أن يعني ذلك اختلافاً في طبائعهما, أو أن يعيّن أحدهما منتصراً والآخر مهزوماً. فالذي يقــول بالتفوق يستطيع أن يعلم غيره وأن يعوّضه عمّا فاته, خلافاً للغة الانتصارية التي ترى الهزيمة والانتصار في ماهيات انسانية منتصرة وفي طبائع مهزومة بالضرورة. ومعنى هذا أن تهذيب المنتصر, وهو مركز الكلام وسلطته, يتطلب فكراً لا يقول بنهاية التاريخ, التي تنغلق على اللامساواة والسيطرة, بل يقول بتاريخ مفتوح تصوغه ارادات كثــيرة متـنوعة, فالقول بنهاية التاريخ, أي بمـــوت الاختلاف, قول بموت الإنسان لا أكثر, لأن الحياة هي الخلاف والاختلاف. وفي الحالات جميعاً يبقى السؤال القديم في مكانه: لماذا لا يعترف المنتصرون بالحقيقة إلا بعد فوات الأوان؟