جرت العادة على تشويه ثقافة الشعوب من أجل تبرير احتلالها والقضاء عليها. فالشعوب في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، لها عقل "بدائي"، وفكر "متوحش"، وسلوك "همجي"، وثقافة "بدوية". وقد ساهم في خلق هذه الصور النمطية الاستشراق، وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية، والمؤرخون، وعلماء تاريخ الأديان، وفلاسفة التاريخ في الغرب بالتوازي مع المد الاستعماري الذي بلغ أوجه في القرن التاسع عشر. ونشأت النظريات العنصرية لتحديد الخصائص الأبدية للشعوب من أجل إثبات تفوق بعضها على بعض آخر. والأكثر تفوقاً هو الذي له الغلبة على الأقل تفوقاً طبقاً لقوانين التطور التي وضعها دارون، الغلبة للأقوى، والصراع من أجل البقاء. وبعد حركات التحرر الوطني وحماية الشعوب لثقافاتها والدفاع عنها عاد الاستعمار في موجة ثانية باحتلال إسرائيل ما تبقى من فلسطين بعد الاحتلال الأول في 1948، ثم احتلال الولايات المتحدة الأميركية أفغانستان ثم العراق، واحتلال روسيا الشيشان. ليس الهدف فقط احتلال الأرض وتشويه الثقافات بل استئصال الأجساد كما فعلت الهجرات الأوروبية مع الهنود الحمر، السكان الأصليين في نصف القارة الغربي. فالجسد مازال هو جسم الجريمة. عليه أن يختفي حتى تنظف الأرض ممن عليها، وإحلال الغزاة محلها وإعطاء أرض بلا شعب لشعب بلا أرض كما تريد إسرائيل، أو السيطرة على العالم كله باسم العولمة وأيديولوجية اليمين المحافظ، والمحافظة الجديدة، والمسيحية الصهيونية. فالأرض قد تنتفض. والشعب قد يعود إلى المقاومة. والثقافة قد تظل حية في قلوب الأحياء. لذلك وجب هذه المرة استئصال الجسد نفسه. ولو بُعث فإنه لن يكون في هذا العالم. ولا يعلم الاستعمار الجديد أن العنقاء تبعث من خلال الرماد في هذا العالم.
وهو ما يحدث الآن عندما تغتال إسرائيل طفلة حاملة حقيبة كتبها على ظهرها في طريقها إلى المدرسة والضابط القاتل يتصورها فدائية تحمل متفجرات على ظهرها في عملية استشهادية. وبعد أن يقترب ويتحقق أنها طفلة ذاهبة إلى مدرستها يطلق على الجثة عشرين طلقة حتى يخفي جسم الجريمة، فإنه يخاف من الطفل الفلسطيني حيا أو ميتا. يفرّغ فيه خزانة رشاشه حتى لا يبقي شيئاً من فلسطين، أرضاً أو شعباً، رجلا أو امرأة، شاباً أو طفلة حتى يطمئن إلى بقاء الاحتلال ودوام الاستيطان بالاستئصال.
يريد تمزيق اللحم وتكسير العظم وتحويل الجسد إلى فتات حتى لا يبعث من جديد (قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم). وجندي آخر يعلق رأس فلسطيني على هوائية دبابته ليعلن للناس أنه يقطع الرؤوس مع تدمير البيوت وتجريف الأراضي دون أن يعلم أن اجتزاز رأس الحسين هو الوقود المستمر عند كل المظلومين والمضطهدين عبر التاريخ وإلى يوم الدين. وعينا الرأس تنظران إلى الجندي في تحد للتاريخ، للحاضر والمستقبل. ويضع الجندي في فم الرأس لفافة تبغ حتى تمحى من ذهنه صورة الفلسطيني وفي يده بندقية. وجندي ثالث يضع طفلا حياً على مصفحته حتى يُصاب بالحجارة. يحمي المركبة بالجسد. فإما أن يقتل الفلسطينيُّ الفلسطينيَّ أو أن يتوقف الفلسطيني عن انتفاضة الحجارة.
ويُمثـّل بجثث الشهداء حتى يطمئن الإسرائيلي إلى أن الجثة لن تنتفض إلى الأبد دون أن يعلم أن الشهداء لا يموتون لا في الأرض ولا في السماء. شعب يعشق الشهادة في مواجهة شعب حريص على الحياة. والفلسطينيون لا يرهبهم الموت بقدر ما يرتعش الإسرائيلي من الموت. وفي نفس الوقت تتاجر إسرائيل بالمحرقة وما فعلته النازية باليهود. فلا فرق بين النازية والصهيونية في التصفيات الجسدية واستئصال الأجساد، وتحويل الوجود إلى عدم، والموت إلى إماتة، والقتل إلى تقتيل. وماذا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها؟ وقد قامت كل الشرائع السماوية والأرضية على حرمة الموتى، وعدم التمثيل بالجثث احتراماً للموت. وألفت الروايات في ذلك مثل "انتجونا" ليوربيدس.
وما يحدث في فلسطين يحدث في العراق. لا فرق بين جندي إسرائيلي وجندي أميركي. ففي العراق لا يكفي احتلال الوطن، وقهر الشعب بل تدمر المدن كما دمرت الفلوجة وترك الضحايا بلا مدافن، "موتى بلا قبور" كما كتب جان بول سارتر. وتتعفن الجثث أياماً وأسابيع دون حرمة لميت أو احترام لشريعة أو قانون، وتدفن الجثث بالعشرات دون هوية في مقابر جماعية، يواريها التراب بلا أهل ولا أصدقاء حتى لا يعود الشهيد كذكرى حتى في قلوب الناس. وتتوالى أخبار تعذيب الأجساد ليس فقط في سجن "أبي غريب" بل في باقي السجون كراهية للجسد العربي، جسم الجريمة. ويطلق الجندي الأميركي النار على الجسد المتحرك حتى ولو كان إمام مسجد ذاهباً للصلاة. يخشى حركة الأجساد التي قد تؤتيه الموت فجأة وعلى غير انتظار. لذلك أُمر الجندي الأميركي في فيتنام بإطلاق النار على كل شيء يتحرك حتى ولو كان غصن شجر من نسمة هواء يحسبه مقاتلا فيتنامياً. يريد الأميركي تثبيت الحركة وإيقاف العالم حتى يتمكن من السيطرة عليه.
والغريب أنه في الثقافة الغربية المعاصرة مذاهب لاحترام الجسد "أنا جسدي" عند جابريل مارسيل. والجسد هو وسيلة الاتصال بالعالم والتعامل مع الآخرين والكلام عند ميرلوبونتي. بل إن السيد المسيح سُمي "الجسد المقدس" أو "الجسد العظيم". وشتان ما بين النظر والعمل، بين الفكر والممارسة طبقاً للمعيار المزدوج المعروف في تعامل الغرب مع غيره من الشعوب.
الجسد عند الإسرائيلي قيمة يريد حرمانها من الفلسطيني. لذلك تصور الله جسدا (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسداً). وهو جسد يخور (فأخرج لهم عجلا جسداً له خوار). وما يطلبه الإسرائيلي هو كبر الجسد (قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم). وهو جسم خاو من أي روح، قوة بلا عدل (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم). فالجسد العربي لا يفنى حتى ولو مُثـّل به. والجسد الإسرائيلي والأميركي مجرد ظاهر وباطنه خراب.
والغريب أنه يُعاب علينا أننا لا نعرف قيمة للجسد. نقطع الرأس، ونغتال الأبرياء. ونعامل المرأة عندنا كجسد في تعدد الزوجات، والضرب والعدوان الجسدي عليها. وجعلنا المرأة مجرد عضو جنسي. وغطينا العري بالحجاب. ولا يضيرنا أن تكون هذه الأرض من هذه الأجساد كما قال أبو العلاء:
خفف الوطأ فما أظـــــن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
والخلود عند ابن رشد مرتان. مرة بالعقل عندما يتحول إبداع الفرد إلى تراث حضاري عام في عقل الإنسانية، ومرة أخرى من خلال البدن الذي يتحول إلى تراب وطين ينبت فيه الزرع، ويزدهر فيه الاخضرار.
فإذا كانت الروح لا تفنى فإن البدن أيضاً خالد فتحية إلى الجسد العربي.