الحديث عن التكنولوجيا واختراقها للحريات الشخصية والمدنية لا يرتبط بالضرورة بوضع الأشخاص تحت المراقبة أو التنصت عليهم. ولا ترتبط بالضرورة بنوع من الاستخبارات العسكرية وأجهزة التجسس والرصد.
وليس من المبالغ فيه إذا وصل حد القول أن الفرد في ظل ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي يعيشها العالم اليوم أصبح كتابا مكشوفا يستطيع الكثيرون قراءته وتدوين ملاحظاتهم عليه.
قبل تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ذكرت مصادر إخبارية ان الولايات المتحدة الأمريكية لديها من التكنولوجيا ما تمكنها من رصد أرقام السيارات بواسطة أجهزة متطورة تستخدم الأقمار الصناعية. بالطبع لا يعد هذا أمرا مستحيلا أو مستغربا قياسا بكيفية عمل أجهزة الملاحة البرية الموجودة في بعض المركبات والتي توضح التفاصيل الدقيقة للطرق. هذا يعني أن الشعور بالخلوة وربما الشعور بالأمان الذين يتمتع بهما الفرد قبل سنين قليلة أصبحا منتفيين. وربما نتذكر كيف استطاعت التكنولوجيا الأمريكية تحديد مسار أحد أنصار تنظيم القاعدة في اليمن وتوجيه صاروخ عليها من على متن طائرة بدون طيار. ولكن قد يتبادر للبعض أنه من الطبيعي أن تسلط كل أنواع الرقابة على المطلوبين جورا أو عدلا وبالتالي تتعرض حرياتهم الشخصية للانتهاك. إلا أن انتشار تكنولوجيا الاتصال وحوزتها من قبل المؤسسات والأفراد شكلت هي الأخرى ضغطا على سلامة الحرية الشخصية من تلقي رسائل غير مرغوب فيها أو وقوع الفرد تحت مصيدتها. فعلى المستوى التجاري، أصبحت تنهال على الفرد الذي يمتلك جهاز هاتف محمول مجموعة كبيرة من الرسائل التجارية (الإعلانات) دون سابق إنذار أو موافقة. هذه الطريقة لا تمكن الفرد من حرية التعرض أو عدم التعرض لهذه الرسائل كما هو الحال في الإعلانات التي تبثها وسيلتا الإذاعة والتلفزيون أو تنشرها الوسائل المطبوعة. إذ بإمكان الفرد في هذه الوسائل التقليدية أن ينتقل إلى قناة أخرى أو إغلاق القناة كليا وهو الأمر الذي يتعذر عمله بالنسبة للرسائل القصيرة عبر الهاتف المحمول. وحماية للأفراد من هذه الرسائل التي تنشرها منظمات أو مؤسسات تجارية بهدف الترويج لمنتجاتها وخدماتها بدون موافقة مسبقة من مستخدمي الهواتف المحمولة، سعت بعض الدول إلى فرض غرامات على مؤسسات الاتصال التي تقدم هذه الخدمة. ففي هولندا، فرضت قبل أيام قليلة هيئة الرقابة على الاتصالات والبريد الهولندية غرامات تصل إلى أكثر من 42 ألف يورو (22 ألف ريال عماني تقريبا) على عدة أفراد أو شركات صغيرة بسبب توجيه رسائل غير مرغوب فيها.
إلا أن اختراق تكنولوجيا الاتصال للحرية الشخصية تعدى الاستخدام المؤسسي المنظم إلى الاستخدام الفردي البسيط. حيث يتمكن بعض الأفراد الذين يمتلكون هواتف محمولة مزودة بخاصية (البلوتوث) من إرسال رسائل لا تستخدم شبكة الاتصال وإنما موجات أثيرية قصيرة المدى. وعلى الرغم من أن الاستخدامات الأولية لهذه الخاصية كانت لتسهيل عملية الاتصال بين جهاز وآخر دون الحاجة إلى أسلاك، إلا أن هذه الخاصية نفسها أصبحت اليوم تشكل اختراقا لحرية الفرد في تلقي أو عدم تلقي رسائل غير مرغوب فيها. كما أثار تزويد بعض الهواتف المحمولة بأجهزة التقاط الصور (كاميرات) ضجة كبيرة ليس في الوسط العربي فحسب بل حتى في المجتمعات الأخرى. إذ تمكن هذه الخاصية من التقاط الصور وربما نشرها وتوزيعها دون معرفة أو موافقة مسبقة من الأشخاص المستهدفين. ومما يزيد الأمر خطورة هو إمكانية التلاعب رقميا بالخصائص الأصلية للأهداف المصورة وتبديل معالمها بشكل يتلاءم مع رغبات الهواة أو الملتقطين لهذه الصور.
لقد أوجدت تكنولوجيا الاتصال عالما تتصارع فيه السرعة والتقنية من جهة مع الحريات الشخصية والقيم الأخلاقية من جهة أخرى. إذ لم يعد سهلا وضع مجموعة من الأنظمة والقوانين التي تحكم التفاصيل الدقيقة في الاستخدام الفردي لهذه التكنولوجيا كما هو الحال في الاستخدام المنظم من قبل المؤسسات والشركات. وأصبح الوازع الأخلاقي والقيمي واحترام الفرد لحريات الآخرين بمثابة المحدد الأول لحسن أو إساءة استغلال تكنولوجيا الاتصال المتطورة.