بعدما قررت الادارة الأميركية اجراء الانتخابات العراقية في 30 كانون الثاني الجاري، بات ضرورياً الحديث عن تحديات مرحلة ما بعد الانتخابات. على رأس هذه التحديات التوصل إلى صيغة تعيد تركيب المجتمع العراقي بما يحافظ على وحدة البلد. كيف يكون ذلك! يكون من خلال إيجاد تحالف للقوى غير المسيّسة دينياً بما يؤدي إلى خلق توازن مع القوى المسيسة دينياً. مثل هذا التوازن يقود بالضرورة إلى دستور عصري للعراق يضعه المجلس الوطني المنبثق عن الانتخابات. أما البديل من هذا التوازن فهو فرز عرقي وطائفي يفضي إلى حروب داخلية لا نهاية قريبة لها، حروب ذات انعكاسات اقليمية خصوصاً على دول الجوار التي ستجد نفسها مضطرة إلى مزيد من التدخل في العراق في عملية دفاع عن النفس هدفها الحد من مخاطر الحروب العراقية وأبعادها.
من هذا المنطلق، تبدو الشيعية مدعوة إلى ممارسة سياسة عاقلة تظهر من خلالها ان لا نيّة لدى المرجعية التي تقف وراء اللائحة في تهميش السنّة العرب. إن مثل هذا الموقف الوطني سيظهر ان شيعة العراق العرب مختلفون عن شيعة ايران وانهم قادرون على المحافظة على مسافة معينة بينهم وبين الأوساط الرسمية والدينية في ايران وذلك على الرغم من كل الجهود التي تبذلها المؤسسات والأجهزة الايرانية لاختراق العراق وإقامة وجود فيه. حتى ان مسؤولاً عربياً يراقب الوضع العراقي عن كثب قال أخيراً في مجلس خاص ان جهاز الاستخبارات العراقي الجديد ليس قادراً على اقامة ولو موقع واحد في جنوب البلاد بسبب الوجود الايراني الكثيف في تلك المنطقة.
حسناً فعلت المرجعية الشيعية في العراق عندما طمأنت دول الجوار العربية عن طريق مصر إلى ان شيعة العراق يظلُّون عرباً وأن لا نيّة لديهم في احتكار السلطة. وحسناً فعلت القاهرة عندما تجاوبت مع وفد المرجعية التي زارها فحض شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي جميع العراقيين على المشاركة في الانتخابات أكانوا سنّة أو شيعة، والواضح انه بات هناك ادراك في ضوء الاصرار الأميركي بأن الانتخابات تعتبر اللعبة الوحيدة في المدينة وأنها شر لا بد منه نظراً إلى ان البديل منها هو خضوع للقوى المتطرفة الساعية إلى تفتيت البلد وهي في معظمها تنظيمات سنّية متطرفة.
تستطيع المرجعية الشيعية التي تدعم لائحة طويلة من المرشحين يتوقع ان تحصل على بين مئة وعشرين ومئة وخمسين مقعداً من أصل مئتين وخمسة وسبعين مقعداً اكمال معروفها بالاعلان منذ الآن انها تدعم قيام عراق عصري وديموقراطي، عراق يتسع لجميع أبنائه، وبكلام واضح لا بد من دستور جديد يؤكد ان العراق سيكون دولة القانون ولن ينحاز لهذا المذهب أو ذاك.
إن عدم اعتماد دستور عصري متوازن ستكون له انعكاسات مخيفة لن يحد منها إعادة الدكتور اياد علاوي إلى موقع رئيس الوزراء على الرغم من ان لائحته لن تحصل على عدد كبير من المقاعد في المجلس الوطني، ذلك انه في غياب مثل هذا الدستور الذي يساوي بين المواطنين العراقيين بغض النظر عن مذهبهم أو دينهم أو قوميتهم، سيجد الأكراد ان ليست لديهم أي مصلحة في المشاركة في إعادة تركيب المجتمع العراقي، فإذا كان هذا شعور الأكراد الذين شكلوا لائحة خاصة بهم يتوقع ان يكون لها ما بين خمسين وستين مقعداً في المجلس الجديد، كيف سيكون شعور السنّة العرب الذين ينظرون بريبة شديدة للانتخابات ويعتبرها معظمهم "مؤامرة" هدفها تشليحهم السلطة وجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية لا أكثر ولا أقل؟
هناك بكل صراحة وبساطة ثلاثة مشاريع تتنافس في العراق، المشروع الأميركي والمشروع الايراني والمشروع الإسرائيلي. ان لأميركا وعلى الرغم من كل الانتقادات التي يمكن ان توجه إلى سياستها العراقية، مصلحة في بقاء البلد موحداً، في حين ان ايران متهمة قبل كل شيء في اضعاف السلطة المركزية في العراق وفي ان تكون أي سلطة فيه شبه تابعة لها وأن تتصرف هذه السلطة على غرار ما يفعل حالياً بعض الوزراء الحاليين في الحكومة العراقية، أما إسرائيل فإنها بكل وقاحة تريد للعراق ان يتشرذم ويتفتت لأن في تفتت أي دولة عربية خدمة لاستراتيجيتها على الصعيد الاقليمي.
يظل المشروع الأميركي المشروع الأقل سوءاً بين المشاريع الثلاثة وإذا حظي بدعم المرجعية الشيعية، يكون العراق خطا خطوة متواضعة في اتجاه استعادة بعض استقراره، وتكون الانتخابات التي صارت قدراً نقطة تحول نحو الأفضل بدل أن تكون قفزة في المجهول/ إن المشروع الأميركي للعراق شر لا بد منه، لا لشيء سوى لأن الشرين الآخرين لا يهددان وحدة البلد وعروبته فحسب، بل انهما أيضاً مساهمة في مزيد من الاخلال في التوازن الاقليمي لغير المصلحة العربية عموماً.