لم يتصور السيد محمود عباس (ابو مازن) رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الجديد ان تحتفل فصائل المقاومة المسلحة بتنصيبه في موقعه الجديد بعملية فدائية نوعية ضخمة استهدفت موقعا عسكريا اسرائيليا في معبر المنطار ادت الي مقتل ستة جنود اسرائيليين واصابة عشرين آخرين، فقد اعتقد الرجل، مخطئا، أن تهديه هذه الفصائل هدنة، تطول او تقصر، لعله يستمتع بالمنصب الذي طالما تطلع اليه، دون منغصات. ولكنه مثلما تسرع بالاعلان عن عزمه لقاء ارييل شارون في اسرع وقت ممكن، والتأكيد علي برنامجه الانتخابي بانهاء عسكرة الانتفاضة، سارعت الفصائل المسلحة، واحداها من داخل تنظيمه نفسه (كتائب شهداء الاقصي)، بارسال رسالة بليغة في معانيها، من خلال العملية الاخيرة، تذكره بحقيقة الاوضاع علي الارض، وتؤكد له، وبطريقة غير مباشرة ان كلمة السر في المرحلة المقبلة، هي المقاومة المسلحة، وليس استجداء الحلول المنقوصة.
ارييل شارون سارع بوقف الاتصالات مع شريكه الجديد والمنتظر (ابو مازن) قبل ان تبدأ، وألغي مهلة منحه اياها، لم يسمع بها احد، واطلق يد الجيش الاسرائيلي وجنرالاته للانتقام، وكأن يدي الجيش كانت مغلولة الي عنقه، وكأن عمليات القتل والتدمير اليومية التي يمارسها بطريقة بشعة مجرد نزهات، وتربيت علي ظهر المواطنين الفلسطينيين، مكافأة لهم علي انتخابهم رئيسا معتدلا.
كنت اتمني لو شاهد العالم الغربي، والرئيس الامريكي جورج بوش، علي وجه التحديد، اللقطات الحية التي بثتها قناة الجزيرة الفضائية للجنود الاسرائيليين يطلقون النار بهدف القتل علي فتية صغار هرعوا لنجدة زميل لهم، قتلته الرصاصات الاسرائيلية فوق حطام منزله في مدينة رفح الصامدة مصنع الشهداء ورجال المقاومة.
عملية المنطار خطيرة ليست فقط في توقيتها، وانما في دقة تنفيذها، فهي نتاج تخطيط ومشاركة ثلاثة فصائل فلسطينية مقاومة (حماس، كتائب شهداء الاقصي، ولجان المقاومة الشعبية)، وهي المرة الاولي التي تستخدم فيها هذه المنظمات اسلوب العمليات المزدوجة، اي استخدام شاحنة محملة بالديناميت يقودها استشهادي، لفتح ثغرة في الجدار، يتسلل منها استشهاديان آخران ويهاجمان موقعا للقوات الاسرائيلية في منتصف الليل.
نجاح هذه العملية يعكس وجود عقلية عسكرية جبارة، وتقدما نوعيا كبيرا في التخطيط والتنفيذ، ويؤكد ان رجال المقاومة مازالوا يملكون عنصر المفاجأة، واختراع وسائل جديدة للوصول الي اهدافهم، تعتبر اكثر تقدما من عقلية التحصينات الدفاعية التي يتبعها الجيش الاسرائيلي وجنرالاته.
بمعني اوضح، ان عملية المنطار هذه ربما تكون بروفة لالغاء مهمة الجدار العنصري الفاصل في الضفة الغربية مستقبلا، الذي اقامه شارون والجنرال موفاز وزير دفاعه لوقف العمليات الاستشهادية. فالجدار قلل من هذه العمليات فعلا، ولكنه نجاح مؤقت، في طريقه للانهيار، والتحول الي عبء امني، تماما مثلما اصبحت المستوطنات الاسرائيلية في قطاع غزة، وبعض مناطق الضفة، بفضل الصواريخ البدائية التي قلل ويقلل من شأنها السيد عباس ومجموعة من مستشاريه الامنيين، باعتبارها فرقعات تلحق الضرر بالشعب الفلسطيني، وينسي هؤلاء ان هذه الفرقعات هي التي اجبرت شارون علي التراجع عن كل تاريخه الايديولوجي، واعلان الانسحاب من القطاع، وهي التي دفعت عشرات العائلات من المستوطنين للهرب الي تل ابيب طلبا للسلامة، وهو ما لم تفعله كل لقاءات اوسلو علي مدي عشر سنوات من المفاوضات المهينة، والسياحة المشتركة مع المفاوضين الاسرائيليين في حمام سباحة فندق الهيلتون في طابا!
شارون يتخبط، فالعملية الاخيرة لم تستهدف اطفالا او مدنيين حتي يحشد عدسات التلفزة للتركيز علي اشلائهم، واظهار وحشية الفلسطينيين، كما انه لم يعد قادرا علي ممارسة اسطوانته المشروخة بتحميل ياسر عرفات المسؤولية عنها، فشماعة عرفات لم تعد موجودة، والرئيس الفلسطيني الذي حل محله هو صديق قديم طالما استقبله في مزرعته تحت جنح الظلام، وبحث معه كيفية دفع عملية السلام علي مائدة عشاء او غداء.
مأزق شارون في ظل رئاسة عباس اكبر بكثير من مأزقه في ظل رئاسة سلفه عرفات، فالرجل انتخب بطريقة ديمقراطية، ووفق المواصفات الامريكية، اثبت الشعب الفلسطيني من خلالها انه علي درجة كبيرة من الدهاء. فلسان حاله وهــــو يذهب الي صناديق الاقتراع كان يقـول، انتم تريدون عباسا هاكم عباسا فماذا انتم فاعلون به وله؟
يخطئ عباس اذا رضخ لضغوط شارون، واستخدم القوة لنزع سلاح المقاومة، ويخطئ اكثر لو استمع الي بعض مستشاريه الامنيين الذين لا يفهمون من الامن غير ما لقنه لهم بعض مدربيهم الامريكيين والاسرائيليين، وعليه ان يتأمل جيدا عملية المنطار هذه ومعانيها ودلالاتها. وعليه ان يتذكر دائما انه ليس ياسر عرفات. فكلمة من الراحل كانت تلغي زعامات، وتنفس بالونات قيادية متضخمة. ولو كان عرفات يريد او يستطيع نزع سلاح المقاومة لفعل، ولكنه كان ذكيا مرتين، الاولي لانه يعرف ان شارون لا يريد السلام، ولذلك لا يريد ان يدفع ثمنا باهظا دون مقابل، والثانية لانه يعلم ان نزع سلاح المقاومة سيكون نهايته الشخصية. ورمزيته السياسية وابوته للشعب الفلسطيني.
الشيء الوحيد الذي يستطيعه عباس في المرحلة المقبلة، وقد تنصب رسميا، هو تعلم فن الانتظار المناور، الذي كان الرئيس الراحل عرفات ابرز اساتذته، علي ان يعمل في الوقت نفسه علي ترتيب البيت الفلسطيني داخليا، اي تفعيل المؤسسات، وقطع دابر الفساد، واجتثاث العفن الاداري، ورد الاعتبار للقضاء، وانهاء المحسوبية.
الامل الوحيد للسيد عباس في عهده الجديد ان يرحل شارون، ويدرك الاسرائيليون ان العد التنازلي لخسارتهم قد بدأ، وينتخبون زعيما معتدلا تماما، مثلما فعل الفلسطينيون، بعد ذلك يمكن الحديث عن السلام، السلام القائم علي الشرعية الدولية وليس علي العدل الامريكي .
الامريكيون يريدون انتخابات في العراق حتي يهربوا من الجحيم الذي اوقعوا انفسهم بانفسهم فيه، وشارون بدأ هذا الهروب مبكرا عندما اعلن انسحابه من جحيم قطاع غزة. النصر هو صبر ساعة. ونأمل ان يعي السيد عباس وجنرالاته هذه الحقيقة ويكتشفوا فضيلة الصبر.