بعد اقل من أسبوع يدخل العراق تاريخا جديدا ، بعد أول انتخابات حرة منذ أن عرف العراق بتكوينه الحديث ،وهي انتخابات تقود في نهاية المطاف لكتابة دستور عراقي جديد تسير عليه الدولة. والدستور سماه شاعر العراق العربي المُستكرد والمختلف حوله، معروف الرصافي، منذ أكثر من قرن، أنه بـ (المُسعد المُشقي).فهل يكون مستقبل العراق بعد هذه الانتخابات مستقبلا شقيا أم سعيدا.
بدءا من الأسبوع القادم، سيكون جديدا على العراقيين أن يتوافقوا لحظة أمام مستقبلهم، فبيدهم أن يقدموا للعراق السعادة وبيدهم أيضا أن يرتكبوا الشقاء. إلا أن تدخل الآخرين في شؤونهم يزيد من اضطراب بلدهم وتركيبة مجتمعهم ويجعل الوفاق عملية رهينة بالتأثيرات الخارجية.
لنقرأ نصا قديما كتب في القرن الماضي وعلى وجه الدقة كُتب في عشرينيات القرن الماضي، وهو نص له علاقة وثيقة بما يحدث في العراق اليوم، مع اختلاف الرموز من حيث الأسماء والمواقع، ومع توافق مع الأحداث قد لا يصدقه كثيرون نظرا لشدة تطابقه.
السير ارنولد ويلسون اسم يعرفه كل من له علاقة بتاريخ الخليج و الشرق الأوسط، وقد كان ضابطا بريطانيا من أهل الإمبراطورية البريطانية في الهند، وصل إلى العراق مع الحملة البريطانية إبان الحرب العالمية الأولى ضابطا في الجيش البريطاني، ثم أصبح وكيلا للحاكم الملكي العام في العراق،وقد ألف الرجل عددا من الكتب حول تجربته السياسية في الهند والخليج، وخاصة العراق ،وفي كتاب له بات مشهورا وكان بعنوان (بين النهرين) يروي ويلسون تجربته العراقية.
في ذلك الكتاب فصل واسع عن ثورة العشرين العراقية،والملابسات التي قادت إليها وتأثير الإقليم العربي فيها ، يقول السير ويلسون بالنص ( لو كانت التنبؤات السياسية تقاس، كما تقاس النبوءات الجوية، استنادا إلى التقارير التي ترد على مكتب الحاكم العام،لظهر فيها انخفاض شديد في الضغط ينشأ في سوريا وينتقل إلى دير الزور ومنها إلى تلعفر مسببا اضطرابات جوية خطيرة،منها هبوط في البارومتر السياسي في كل من بغداد وكربلاء و النجف، وهي الأماكن الثلاثة التي تعرف كمراكز تثور فيها العواصف)
هذا النص مضى على نشره قرابة ثلاثة أرباع القرن، وهو ويا للعجب لا يزال صالحا لتفسير الاضطرابات الجارية في العراق اليوم.
بالأمس كانت دمشق مقر طموح الثورة العربية،وكان فيها ملك ( فيصل بن الحسين) محاطا بعدد من رجال السياسة العراقيين،بعضهم عسكر خدم في الجيش العثماني وطموح إلى أن تكون العراق دولة حديثة تحت إمرتهم،وتنقلب الأحوال، فينقل فيصل مركز حكمه بناء على طلب البريطانيين مطرودا من الشام، بعد أن فشل في البقاء في دمشق طويلا، حيث كان للفرنسيين رأي آخر،وأمام صراع عرف في التاريخ بالتنافس بين طالب النقيب، وبين فيصل بن الحسين ،أصبح الأخير ملكا على العراق.
اليوم دمشق ترفدها طهران وتشد من أزرها لغاياتها الخاصة فيها، فذاك منخفض جوي آخر فيها،وكلا القوتين،دمشق وطهران، تنظران إلى العراق من جديد كمنطقة فراغ سياسي جاذب، بالضبط كما وصفها ارنولد ويلسون في ذلك الزمان الغابر،وزاد الفراغ السياسي هذه المرة أفعال أطراف عراقية وأخرى عربية لا تربطها دول بأكثر مما يربطها تيار فكري،والكل يتسابق على ملء الفراغ العراقي المفترض.
فراغ السلطة يعني أن العراقيين بأطيافهم السياسية غير متفقين على إيجاد سبل للعيش المشترك فيما بينهم، كان ذلك ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى ،وكان الحل البريطاني قبل ثلاثة أرباع القرن، أن يؤتى (بملك) من الخارج ليحكم العراق ،ويكون حكما بين الفئات العراقية المختلفة، وحتى موعد تنصيب هذا الملك على عرش العراق كان مدروسا، وجاء التنصيب في يوم الغدير، وهو اليوم الذي ينظر إليه الشيعة بشيء من التقديس.
إلا أننا نعرف اليوم أن تجربة الملكية في العراق لم تدم طويلا، لان بعض العراقيين في الأساس كانوا على قناعة بان الملكية مفروضة عليهم من الخارج. ولان من ورث الحكم بعد فيصل لم يكن حصيفا بما فيه الكفاية ، وفي مذكراته يؤكد الملك فيصل نصا يتأفف فيه من صعوبة حكم العراقيين بأطيافهم المختلفة، فلا تكاد ترضي طائفة حتى تُغضب أخرى، وهو نص مشهور استشهد به مرارا في الكتابة عن العراق الحديث. العراقي فردي ومن اشد شعوب العالم اعتدادا بنفسه، قاسى في الهجاء ،وعديم في المسؤولية الاجتماعية.
إلا أن أي عاقل لا يستطيع أن يشارك تلك الأفكار على إطلاقها، كالقول أن العراقيين غير قابلين للحكم إلا ( بالحديد و النار) ذلك تعميم غير عقلاني، كما لا يأخذ في الحسبان تطور الزمن الذي غير من ضمن ما غير العراقيين أنفسهم، كما لا يشارك العاقل القول بان العراقيين أصلا غير قابلين للدمقرطة، فذلك قول آخر غير عقلاني على علاته.
إلا أن فكرتي الداخل والعصرنة، لا تزال قائمة، فـ ( التدخل الخارجي) من دول الجوار أو من غيرهم في الشأن العراقي، فكرة مازالت قائمة ومؤثرة، وهي قابلة للتأثير الأكبر كلما تجاهلت الطوائف والشيع العراقية السياسية و العرقية بأنها تعيش في مجتمع تعددي. وكلما عملت فئة عراقية على تعويق مثل هذا التفاعل التعددي بتجاهله ، لجأت الفرق إليه، المهضوم حقها إلى الخارج، تمد يدها للجوار من اجل المساعدة، ليس من اجل استرجاع حقوقها فقط، بل من اجل غلبتها على الفئات الأخرى. حدث ذلك كله في عدد من الأزمان السياسية العراقية الحديثة، وهناك حديث مشهور بين المرحومين عبد السلام عارف وجمال عبد الناصر ذاع صيته، سأل عبد الناصر عبد السلام عارف ،ما هي نسبة الشيعة في العراق ، فرد عليه عارف بالقول، أنهم يشكلون سبعة في المائة من سكان الوطن العربي أيها الرئيس!
تلك نكته سياسية من نكات عصرنا ، فقد تجاهل عارف ما يريد عبد الناصر أن يصل إليه ،بالقفز على الحقائق في الجواب، و الفكرة صحيحة أيضا في عهد عبد الكريم قاسم، وفي عهد البعث (البكر، صدام)،وأن اختلفت القوى.
الاضطراب في الجوار العراقي يسبب عواصف في بغداد، وكذلك العواصف في بغداد تسبب الاضطراب في الجوار الجغرافي، وهذه تكاد تكون معادلة سياسية ثابتة في الفضاء العراقي.
وبدأت بغداد في أكثر عصورها الحديثة تريد أن تصدر مشكلاتها إلى الخارج لان التوافق العراقي الداخلي شبه مستحيل، فهناك قناعة أن احد أسباب شن الحرب ضد إيران هو تخوف السلطة آنذاك من أن تنداح تأثيرات الثورة الإيرانية ( الشيعية) على شيعة العراق، بالطبع لم يثبت هذا الأمر على إطلاقه، وان كان هناك بعض التأثير، إلا ان الثمن الذي دفع كان اكبر وأغلى بكثير من الوقاية التي حصل عليها النظام،كما بدا واضحا أن الحرب ضد الأكراد كانت لتعريبهم ثقافيا،فدفع العراق ثمنا باهظا من دماء أبنائه ،واستقراره السياسي .
لا نستطيع اليوم فيما يحيط بالعراق أن نتجاهل العامل الدولي، وتأثيره شبه المطلق على الأحداث سواء في العراق أم في الجوار العراقي، فلا احد يريد أو يقبل أن يتحول العراق إلى بؤرة جذب للإرهاب بأشكاله المختلفة، ولا احد يريد أو يرغب بان تصبغ السياسة العراقية بصبغة واحدة، دينية أو عرقية أو مذهبية،ولكن مفتاح الاستقرار هو في اليد العراقية، الانتخابات التي سوف تجري بعد أيام، على رغم ما يمكن أن يرافقها من عنف، هي أول الطريق الطويلة لتعافي العراق، وهذا الطريق لن يعبد مسارها المستقرة غير العراقيين أنفسهم، على أن يتذكروا قول الرصافي أن الدستور،الذي قد يُسعد وقد يُشقي،هو الأساس لقبول اللعبة الديمقراطية وتثبيت آلياتها في الدستور المقبل ، تلك مسألة إن أجادها الجميع ربحوا ،وان اخفق فيها فريق اخفق العراق كله وغرق في بحر من الدم.