ما سر مطالبة البيانات الانتخابية لجماعات وأشخاص عملوا لحساب الاحتلال بإنهاء الاحتلال؟ الجواب تقدّمه نكتة بغدادية عن شخص دخل حانوتاً يعرض ساعات، طالباً تصليح ساعته اليدوية. قال صاحب الحانوت إنه ليس "ساعاتي"، بل "مطهّرجي"، وهو الجرّاح الشعبي، الذي يقوم بالختان. سأل الشخص باستغراب: "وليش عارض ساعات بالفترينة"؟ أجاب "المطهّرجي": "يعني تريدني أعرض شنو"؟! وهل هناك أشد بذاءة من انتخابات عامة تفتقر إلى الحد الأدنى من شروطها: الاتفاق الوطني العام على عقدها، والظرف الملائم لإجرائها، وعلانية الترشيح لها، وأمن الناخبين والمنتخبين فيها؟ الانتخابات القادمة لا توفر حتى الماء لترطيب أفواه الناخبين في مناطق يسكنها نصف سكان العراق، ولا الكهرباء لقراءة ورقة التصويت. طول الورقة 3 أقدام وعرضها قدمان، وتضم قوائم 257 حزب وجماعة، من دون ذكر الأسماء. عرس مجانين، يقول عنه المثل العراقي "العريس والعروس اثنين والمجانين ألفين". العريس أميركا والعروس بريطانيا، والمجانين لا يعقلون أن هدف هذه الانتخابات إعفاء الدولتين الغازيتين من مسؤولية جرائم الحرب والاحتلال، التي ارتكبت سابقاً وسترتكب لاحقاً. هذا هو سر "فتوى" واشنطن "العظمى" بإجراء الانتخابات في موعدها المحدد. عدنان الباججي، الذي يشارك حزبه، "تجمع الديمقراطيين المستقل" في الانتخابات رغم دعوته إلى تأجيلها، حذّر في تصريح إلى صحيفة "الفاينانشيال تايمز" البريطانية من "نصر فادح" ستنجم عنه الانتخابات. وذهب الباججي إلى حد المطالبة بأولوية عقد مؤتمر عام للتوافق الوطني والمصالحة قبل الشروع بوضع الدستور، وهي المهمة الموكولة للمجلس الانتقالي المفروض انتخابه الأحد القادم.
التطورات المتلاحقة في العراق تفرض ألا تكون المصالحة بين فصائل المقاومة والحكومة فقط، أو بين الشيعة والسنة، بل داخل ما يُسمى "البيت الشيعي" أيضاً. صحيفة "نيويورك تايمز" تتوقع انفراط "الائتلاف العراقي الموحد"، الذي يضم الأحزاب الشيعية الرئيسية، ويحظى بدعم الزعيم الديني السيستاني. هل يمكن لمبدأ "التقية"، حسب الصحيفة الأميركية تسوية الخلافات بين قادة الائتلاف، الذين يتنافسون على رئاسة حكومة يُفترض أن ينتخبها المجلس القادم؟ لا يشارك في هذا الرأي الزعيم الشيعي إياد جمال الدين، الذي ندّد أول أمس في تصريح لصحيفة "الغارديان" البريطانية باستخدام الورقة الدينية للحصول على منافع سياسية. وقال جمال الدين، الذي يسكن في النجف جوار زعيم "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" عبد العزيز الحكيم إن المجتمع العراقي بطبيعته "علماني" مئة في المئة.
وليس الدين هو الذي يجمع بين المتنافسين في قائمة "البيت الشيعي"، بل الجنسيات الأجنبية والانتماء الطائفي، بأضيق أشكاله: مدى قربهم، أو بعدهم عن السيد السيستاني. وكل من يُحسن قراءة تاريخ العراق القريب والبعيد يعرف أن الطائفية، "الأجنبية" خصوصاً ليست باب الفردوس، بل الجحيم. التصريح المتأخر لعدنان علي ممثل "حزب الدعوة" لصحيفة "نيويورك تايمز" بأن الحكومة القادمة لن تضم عمائم قد تأسف له واشنطن ولندن، اللتان أنفقتا ملايين الدولارات على ورقة الطائفية. بالنسبة للعراقيين ليس المهم أن يلبس الحاكم عمامة، أو عقالاً، أو قبّعه، بل أن "يعبّي بالسِكّلة رقي". "السِكّلة" مستودع الخضروات، و"الرقي" هو "البطيخ الأحمر"، ويُقال المثل في معرض التحدّي على إنجاز المهمة المطلوبة. ما إنجازات مرشحي "البيت الشيعي" المتنافسين، نائب رئيس الجمهورية المؤقت إبراهيم الجعفري، ووزير المالية عادل مهدي، وعضو مجلس الحكم الانتقالي السابق أحمد الجلبي، وحسين الشهرستاني، المرشح السابق لرئاسة الحكومة؟
الجواب عن ذلك في قائمة "أحسن الفرص لإخراج العراق من وضعه المزري"، حسب الكاتب البريطاني سوماس مايلن، محرر صفحة الرأي في "الغارديان". أول الفرص باقات الزهور، التي كان سيستقبل بها العراقيون الغزاة، تلتها فرصة السلام، المفروض أن يحل بعد اعتقال صدام حسين، وفرصة الأمن، الذي وعد به مجلس الحكم الانتقالي، ثم الازدهار، الذي كان يُفترض أن يجلبه مجلس الحكم المؤقت، والأمان بعد سحق "المتمردين" في الفلوجة. جميع الفرص خابت، بما فيها الفرصة، التي قامت من أجلها الحرب: العثور على أسلحة الدمار الشامل، التي كان الشهرستاني سينال لقاء الكشف عنها جائزة نوبل.
ما الفرص، التي يجلبها، حسب الكاتب البريطاني سياسيون، يدينون ببقائهم الجسدي لحماية القوة الأميركية، وأحزاب تدين بوجودها للاحتلال، وانتخابات تجري تحت أحكام عُرفية، وحرب شاملة تشنها المقاومة، وقصف قوات الاحتلال يومياً لقلب الأراضي العراقية؟
الانتخابات الحالية، في رأي الباحثة الكندية ناؤومي كلاين جريمة حرب، ليس ضد العراق فحسب، بل ضد الديمقراطية أيضاً، وبالنسبة للمستفيدين منها مجرد مقاولة ثانوية من المقاولة الكبرى للحرب. أولى المقاولات كانت "فريق العمل لمستقبل العراق"، الذي شارك فيه مغتربون عراقيون أصبحوا سفراء ومندوبين للعراق في الأمم المتحدة ووكالاتها المختلفة. بدأ عمل الفريق، الذي أشرفت عليه وزارة الخارجية الأميركية قبل الغزو بسنتين، ووضع فيه ما يُسمى "القانون الأساسي" للعراق، الذي ألغاه حاكم الاحتلال بول بريمر، ووضع قانونه الخاص، وعليه تقوم الانتخابات الحالية. المهمة الأساسية للمجلس القادم وضع قانون أساسي أيضاً، أو ما يُسمى "دستور" يُعرض للاستفتاء العام. في حال فشل "الدستور" القادم في الحصول على الأصوات اللازمة تجري انتخابات أخرى لمجلس جديد يكرر المحاولة، وهكذا دواليك على امتداد طريق الديمقراطية البرلمانية في العراق المفروشة بالمقاولات والجثث. كم تكلف مقاولة الانتخابات الحالية، التي اقتضى تنفيذها إعلان الأحكام العرفية، ومنع التجول، وغلق الحدود، ومنع استخدام السيارات، ومئات القتلى والجرحى، ونسف أنابيب نفط، وتخريب منشآت صناعية، وعشرات الآلاف من الناس الهاربين إلى الأرياف، أو خارج البلد، والحرب الأهلية التي ستعقب الانتخابات، حسب توقعات التقرير الأخير لوكالة المخابرات المركزية الأميركية "السي آي أيه"؟
جزء بسيط من كلفة الانتخابات معروض في مقاولة ما يُسمى "برنامج التصويت خارج العراق". مبلغ المقاولة 92 مليون دولار، حسب موقعه في الإنترنت:
http://www.iraqocv.org
يعرض الموقع بالعربية والإنجليزية قوائم بعدد المسجلين للانتخابات في الخارج، وبلغ في اليوم الأخير للتسجيل نحو 131 ألفاً، أعلن بعدها عن تمديد التسجيل يومين إضافيين، فتضاعف العدد نحو مرتين إلى 255 ألفاً.

كيف حدث ذلك؟
شهادات موظفين عراقيين في مراكز التسجيل تؤكد وقوع تجاوزات، كتسجيل أشخاص بناء على المعرفة الشخصية فقط، دون طلب وثائق تثبت عراقيتهم، وتهديد المستنكفين عن التسجيل بالحرمان من حق المواطنة العراقية. مراجعة تعليمات مركز التسجيل، الذي يقع في العاصمة الأردنية عمان تكشف عن إمكانية وقوع ذلك. فلا وجود لمراقبين من الأمم المتحدة، "والناخبون المسجلون ووكلاء الكيانات السياسية وحدهم، هم الذين يسمح لهم بفحص سجلات الناخبين والاعتراض على إدراج بعض الناخبين إذا ما اعتُقد أنهم غير مؤهلين.. ويمكنهم القيام بذلك فقط تحت إشراف موظفي التسجيل". يعني انتخابات نزيهة "بحق وحقيق"، حسب التعبير الكردي. شهادة موظف التسجيل الدكتور أيّوب البزاز عن احتلال الأكراد الانفصاليين لمركز لندن معروضة في موقع الإنترنت:
http://www.iraq4allnews.dk/viewnews.php?id=75841