أراني أحد الزملاء مقالة على الانترنت للزميل الدكتور سيّار الجميل تدور حول حديث جرى بيني وبينه والدكتور محمد عمارة بالشارقة قبل عام، ودار أكثره حول العراق. وليس مهماً أن أقصّ بالتفصيل ما يصح من حديث الزميل عن المحاورة، وما لا يصح. فالزميل الجميل موصلي قحّ، وأستاذ معروف في التاريخ الحديث، وله مؤلفات معروفة. وأذكر أنه احتدّ يومها لأن الأستاذ عمارة اعتبر نظام صدام نظاماً وطنياً، ورأى مشروعية بل ضرورة مقاومة الاحتلال الأميركي والحفاظ على وحدة العراق. وجهة نظر الدكتور الجميل أن نظام صدام ما كان وطنياً ولا عربياً على الإطلاق، وأن العرب جميعاً نافقوه أو تحالفوا معه، وأنه ما كانت هناك حيلة للعراقيين للتخلص من صدام إلا عن طريق الأميركيين. الدكتور عمارة أراد الرجوع إلى الوراء من أجل التصحيح، والدكتور الجميل (مثلنا جميعاً) لا يملك حلاً، ولذلك يقبل بالأميركيين، المحاورة جرت قبل عام، وكنا وقتها نرى جميعاً أن الانتخابات هي المخرج اللائق والوحيد والواعد.
لكنني استغربت أن ينشر الدكتور الجميل هذه المحاورة الآن، كأنما لم يجر شيء منذ احتلال الأميركيين للعراق. فالاحتلال الأميركي، الذي عارض في البداية دعوة السيستاني للانتخابات، صار الآن مصرّاً عليها باعتبارها المدخل الأوحد للديموقراطية بغض النظر عن درجة المشاركة، وعن مصائر العراق بعدها. لقد تصلبت الجبهات، ومن الظلم اعتبار القائلين بالانتخابات الآن أنصاراً للاحتلال، لكن من الظلم أيضاً اعتبار الذين يؤثرون تأجيل الانتخابات أنصاراً لصدام، أو مؤيّدين للنزاع الداخلي والحرب الأهلية. وأيديولوجيا الانتخابات تتفتق يومياً ـ قبل إجرائها بأقل من أسبوع ـ عن مصائب جديدة. فأحمد الجلبي يريد الآن إقامة منطقة حكم ذاتي أو ما يشبهها في البصرة والعمارة والناصرية بحجة أن الأكراد أخذوا 17% من ثروة العراق، والبصرة المسؤولة عن 90% من ثروة العراق البترولية مظلومة وبائسة. ولذلك فالأمر يتجاوز التباينات السنية الشيعية إلى إثارة الفتن بداع وبدون داع، وليس هناك ضابط ولا "ساحة سياسية" للحوار والتواصل وتقليب الأمور على وجوهها الممكنة استناداً لوحدة العراق دولة وبيئات.
وإذا كنت أستنكر ما يقوله الجلبي أو يفعله، فأنا أشد استنكاراً لفتن الزرقاوي الذي أصدر بياناً جديداً يحمل فيه على الشيعة (يسميهم الروافض) أكثر مما يحمل على الأميركيين. وإذا كنا نعرف "مصادر" مبادرات الجلبي الفظيعة، فنحن لا نعرف الكثير عن مصادر عبقرية الزرقاوي وحزبه. ولست أستبعد أن يكون المقصود من وراء تصريحات الزرقاوي منذ عام ونيف إثارة حرب أهلية فعلاً داخل العراق. وأنا مع الشيخ الجوادي الذي طالب هيئة علماء المسلمين بالعراق إبداء الرأي بالمذابح التي يقوم بها الزرقاوي ضد المدنيين، وتصريحاته الاستفزازية ضد الشيعة، وهم أكثرية المواطنين بالعراق!، وقد كنا نخشى متطرفي الأكراد على وحدة العراق، ونحن الآن أشد خشية على تلك الوحدة الهشة من الزرقاوي وأمثاله.
لا يملك العرب حلاً لمشكلة العراق، ولو كانوا يملكون شيئاً من ذلك لما مكّنهم الأميركيون. وهذا ليس عذراً. لكن ليس من حق الزميل سيّار الجميل، ولا من حق أحد آخر عراقياً كان أو غير عراقي أن يمنعنا نحن العرب الآخرين من الاهتمام بشأن العراق وأمره؛ وإن لم نكن نملك غير إبداء الرأي. لقد ذكّرني حديثه بأحاديث بعض الاخوة الفلسطينيين في السبعينات حين كانوا يأخذون علينا "محاولة" الحلول محل الشعب الفلسطيني، والوقوف في وجه "القرار الفلسطيني المستقل"!، وأنا اليوم ضد إجراء الانتخابات هناك لأنها لن تسهم في أي شيء إيجابي للعراق، وكما كانت فلسطين ذات آثار رهيبة على كل العالم العربي، فسيكون العراق كذلك إن استمرت الجبهات المتقابلة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.