عندما تحولت النقابات المهنية الأردنية: العمال، المهندسون، الاطباء، الصيادلة المحاسبون وغيرها الي أحزاب سياسية تنافسها في عملها السياسي، تدخلت الدولة وقررت حظر الانشطة السياسية علي النقابات المهنية، فمنعت ندوة عن الانتخابات في العراق بين المقاومة المشروعة والاحتلال غير الشرعي .
وازالت الشعارات المعلقة علي مقر النقابات والتي تحض علي رفض السلام والتطبيع مع اسرائيل، ومقاطعة البضائع الامريكية، ومعاداة امريكا.
وشن وزير الداخلية هجوما عنيفا علي رؤساء 14 نقابة وقال: علي النقابات الالتزام باختصاصاتها واهدافها وفق الاغراض المرخص لها وهي الاغراض النقابية والقضايا المعيشية لأعضائها.
وان العمل السياسي من اختصاص الاحزاب السياسية. واتهم النقابات بالعمل خارج الاختصاص حيث جندت نفسها لتكون منابر سياسية لمن هب ودب من الافكار المسيئة لمصالح الاردن - في اشارة ضمنية الي معارضة النقابات للعلاقات مع اسرائيل والولايات المتحدة- ولكن الوزير اضاف ان منع النشاط السياسي علي النقابات من غير ترخيص مسبق لا يعني حجرا قطعيا علي النقابات بأن لا تعمل في الشأن العام، لكن لا بد ان يكون هذا العمل مقننا وفق قانون الاجتماعات العامة الذي يحظر علي الفاعليات السياسية تنظيم اي محاضرة او مسيرة او مهرجان من دون اذن مسبق.
في المقابل رفضت النقابات القرار واصرت علي استمرارها في موقفها الذي اعتادته عبر عقود من السنين وانها لا تتدخل في السياسة وليست لديها طموحات سياسية وانما اهتمامات بقضايا عامة مثل فلسطين والعراق والحريات العامة.
في ظل هذه الازمة بين الحكومة والنقابات: تري ما مدي احقية النقابات في ممارسة العمل السياسي؟
إذا رجعنا الي القوانين المنظمة لعمل النقابات نجد انها تقصر اختصاصاتها علي العمل المهني والاجتماعات واللجان النقابية والمؤتمرات والندوات العلمية وسائر الانشطة المتعلقة بالشؤون الانسانية والاجتماعية والثقافية والخيرية دون النشاط السياسي الذي هو من اختصاص الاحزاب السياسية.
ولكن النقابات جزء من منظمات المجتمع المدني فما علاقة تلك المنظمات بالامور السياسية؟ وما علاقتها بالأحزاب السياسية؟
الأحزاب السياسية - في ادبيات المجتمع المدني الغربي- لا تشكل جزءا من منظومة المجتمع المدني لأنها تستهدف الوصول الي السلطة، فهي جزء من منظومة المجتمع السياسي لا المدني- وحيد عبدالمجيد، الحياة 16/8/399amp;#0;- بينما منظمات المجتمع المدني، معنية -اساسا- بالنشاط الطوعي الجماعي المنظم لا بهدف الربح كما في القطاع الخاص ولا الوصول الي السلطة، كما في الاحزاب.. ولكن هل معني ذلك ان منظمات المجتمع المدني لا تهتم بقضايا المجتمع العامة، ومنها القضايا السياسية؟ لقد قيل ان منظمات المجتمع المدني تنشغل بالقضايا العامة. ولكن لا تشتغل بها، وفرق دقيق بين الانشغال والاشتغال اذا تجاوزته منظمات المجتمع المدني وقعت في المحظور، بطبيعة الحال فإن اي مواطن عربي في اي مجتمع عربي لا يستطيع ان يكون بمنأي عن الانشغال بهموم وقضايا الامة العربية والاسلامية وينطبق ذلك -ايضا- علي منظمات المجتمع المدني ولكن مشكلة النقابات الاردنية انها تجاوزت كل الخطوط الحمراء حين لم تتفهم مصالح الاردن السياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة وحساسية موقعها الاقليمي، كما انها اثارت نقاشا في الحياة السياسية الاردنية عن شرعية الحكم الذي يحظي بتأييد دستوري وتوافق داخلي، وبلغ من طغيان العمل السياسي علي النقابي ان اصبحت مهرجاناتها الخطابية تصنف الحكومة في خانة العملاء للولايات المتحدة مما سيؤدي من استمرار النقابات في العمل السياسي الي انفلات امني- باسل رفايعة -الحياة 23/1- وقد تساءل -احمد الجارالله في السياسة 25/1- وهو محق: ما علاقة الصيادلة والاطباء والمهندسين بالاعتراض علي انتخابات العراق واصدار البيانات المضادة لها؟ وما علاقتها بالارهابيين الذين يسفكون دم ابناء شعب العراق ويقطعون رؤوسهم بحجة دعم المقاومة؟ وما علاقتها بمهاجمة امريكا ودعوتها للخروج من العراق؟ وما علاقتها بأفغانستان حتي تطالب بالافراج عن الارهابيين في غوانتانامو؟ لماذا لاتلتزم تلك النقابات باختصاصاتها المهنية؟
ويضيف عبدالرحمن الراشد في عموده بالشرق الاوسط 20/1 ان الحكومة الاردنية محقة هذه المرة في تقييدها نشاطات النقابات وحصرها في خدمة المهن التي يفترض ان تتفرغ لها فالصيادلة والاطباء والمهندسون والمحاسبون علي كاهلهم واجبات اساسية تتمثل في اصلاح حال المهن التي انتخبوا من قبل اعضائها.
بقيت ملاحظة اخيرة مؤسفة، هي ان منظمات المجتمع المدني العربية وبالذات، النقابات والاتحادات والتي من المفترض ان تمثل (البنية التحتية) للديمقراطية، اذ هي اشبه بالشرايين التي يجري فيها السائل الحيوي للديمقراطية كما يقول د. سعد الدين ابراهيم ويضيف (اذا كان من المسلمات انه لا تنمية بدون ديمقراطية، فكذلك لا ديمقراطية من غير مجتمع مدني يكون بمثابة الام الحاضنة التي تضمن للديمقراطية النمو والاستمرار والازدهار وتجعلها غير قابلة للانكفاء والارتداد - مجلة المجتمع المدني، ديسمبر 98.
أقول: ان هذه المنظمات التي تمثل رهاننا للمستقبل الديمقراطي قد اصبحت وللأسف اما مسيّسة لخدمة مصالح شخصية او طائفية او قبلية او طبقية - انظر استفتاء القبس الكويتية 4/11/3- حيث قال 85% ان جمعيات النفع العام تجمعات لمصالح شخصية. واما انها مؤدلجة ومخترقة من قبل احزاب وجماعات أيدلوجية منغلقة- نقابة المحامين بالاردن جمعت توقيع 600 محامٍ للدفاع عن صدام بينما لم تنطق بكلمة عن المقابر الجماعية، واتحاد الكتاب العرب رفضوا استقبال الاتحاد العراقي بسبب الاحتلال، وفصل اتحاد الكتاب المصريين علي سالم لزيارته اسرائيل بل تحولت المنظمات المهنية الي مكاتب للمقاطعة العربية حتي في الدول التي بينها وبين اسرائيل اتفاقات، ومعظم الاتحادات والنقابات العربية وقفت في خندق واحد مع نظام صدام مع معظم الاحزاب الاسلامية والقومية -السعدون، القبس 18/4/3- والبرلمانيون العرب وقفوا موقفا مخزيا حين رفضوا ادانة المقابر الجماعية حسب تعبير عبدالرحمن الراشد -الشرق الاوسط 14/6/3- وكانت مواقف الكثير من منظمات المجتمع المدني من محاكمة سعد الدين ابراهيم مخجلة.
حتي اصبح قمع المثقفين للمثقفين اشد وأنكي من قمع السلطات وبلغ السقم الفكري لبعض منظمات المجتمع المدني ان اعتبرت القبض علي صدام اهانة لكرامة الامة، وحتي بعض منظمات العمل الخيري الاسلامي، اصبحت مُسيّسة وتركت بعض تلك المنظمات عملها الاساسي في خدمة مجتمعاتها لتتفرغ لتشغيل اسطوانة شتم امريكا وتنظيم مسيرات لحرق علمها كسبا للساحة الجماهيرية عبر اثارة عواطفها وتهييجها ثم صب النقمات علي حكوماتها لانها تتعاون مع امريكا، ولولا ذلك التعاون لجاعت تلك الجماهير ومنظماتها. وكان موقف المنظمة العربية لحقوق الانسان من مأساة دارفور (مُسيّسا) حين اعربت عن قلقها لما أسمته: تسييس المعاناة الانسانية وحذرت من التدخل -القبس 27/4/4- ولولا التدخل الدولي لاستمرت المعاناة.
منظمات المجتمع المدني في العالم تمارس دورا حيويا مهما يؤثر علي قرارات تشريعية واجتماعية تخدم مجتمعاتها وتزيدها تقدما ورقيا، بينما منظماتنا المدنية -في معظمها- اصبحت جزءا من منظومة النضال الشعاراتي ضد قيم الحداثة والتقدم وكرامة وحرية الانسان.