كنت بنيت توقعاتي بنجاح العراق في امتحان الانتخابات على مشاهدات وملاحظات دونتها في لقاءات مع ساسة وعسكريين واناس عاديين خلال رحلات متعددة الى العراق. ورغم ذلك كان حجم المشاركة مفاجأة. زحف المقعدون الى صناديق الاقتراع. عراقية في آخر يوم حملها، فضلت طابور الديمقراطية على امان مستشفى الولادة وسمت المولودة «انتخابات».
لم اجد، وغيري من المعلقين البريطانيين، كلمة تصف العراقي يرفع الاصبع البنفسجي الصبغة والدموع في عينيه سوى «بطولة». وأرجو ان يرشح قضاة نوبل للسلام الشعب العراقي لنيلها هذا العام.
ومن المستبعد ان ينهي خيار الأمة العراقية للديمقراطية العنف فورا، لكن المؤكد هو التحول التاريخي بقهر العراقيين الخوف إلى الأبد. شتان ما بين انتخابهم الأحد، ومهزلة أكتوبر عام 2002 التي فاز فيها صدام بنسبة 100%. لم تكن هناك حاجة للحراسة لأن من يوجهون اعمال العنف ويرسلون الانتحاريين اليوم، كانوا رجال الحكم آنذاك.
لم تكن انتخابات الأحد بالمثلى التي تتمناها الشعوب المتطلعة لاستعادة ديمقراطية ما قبل الانقلابات العسكرية، لكنها بالنسبة للبسطاء الذين جازفوا بحياتهم، كانت الديمقراطية في واحدة من أنبل صورها التي سيدونها التاريخ.
تخيل مصابا بفوبيا المرتفعات، يفضل المبيت في الظلام على صعود السلم لتغيير اللمبة، وقد قهر خوفه بتسلق ايفريست بلا مرشد; انه العراقي والعراقية، عربي وكردي وآشوري وتركماني، شيعي وسني وكاثوليكي وأرثوذكسي ويهودي ويزيدي، يصوت «للعراق» قبل القائمة.
لم يختبر العراقيون دون السبعين من العمر حرية الاختيار السياسي. انتخابات برلمان 1954، كانت آخر تصويت لأحزاب متعددة، بعضها معارض (وحل البرلمان بعدها وجاءت كارثة الانقلاب العسكري عام 1958).
تاريخ العراق الحديث مأساة; فقد مزقته الانقلابات العسكرية والاغتيالات والمؤامرات التي توجت رحلة المتاعب باستيلاء صدام وعصابته على السلطة، وزجهم بالبلاد في حروب متتالية. وعقد كامل من الدمار والإفلاس والعقوبات الاقتصادية أنست العراقيين فن الضحك، وأغرقتهم في الكآبة. صورة العراقيات مزغردات دامعات، والرجال يبتسمون دامعين، كانت خبرا نقلته الكاميرات العالمية. وتمخض زخم الفرح القومي عن تصريحات علماء السنة بقبولهم الحوار والمشاركة في العمل السياسي، وهي اولى العلامات الإيجابية.
النقلة الثانية هي نحو السلام، حيث تتقلص مساحة تواجد إرهابيين، مثل ابو مصعب الزرقاوي، وينقسم البعثيون من حملة السلاح بين خيارات أحلاها مر.
اليسار الأوروبي وحلفاؤه في الشرق الأوسط ـ والذين تمنوا فشل الانتخابات اغاظة في الرئيس جورج بوش وحليفه توني بلير ـ جادلوا بأن الانتخابات لن تغير شيئا، فمعركة الديمقراطية مع الإرهاب غير متكافئة. فالأولى مقيدة بقوانين الحفاظ على ارواح الأبرياء، اما الإرهاب فغير أخلاقي لا يحفل بموت الأبرياء.
تنبأ الزرقاوي بخسارة المعركة يوم نجاح العراقيين في امتحان الانتخابات، بحس سياسي اصدق من حس مثقفي اليسار الأوروبي، ومن دفعوا بآلاف الاسبان للتظاهر يوم السبت الماضي في مدريد مثلا ضد الانتخابات العراقية.
تمكنت المخابرات العراقية، بمساعدة الأميركيين طبعا، من حل شفرة رسالة بعث بها الزرقاوي الى عدد من زعماء القاعدة، حذر فيها من هزيمة تحيق بمشروع السلفيين الإسلامويين، اذا ما جرت الانتخابات في موعدها، فطالب اتباعه والقوى المساعدة ببذل اقصى الجهود لتعطيل الانتخابات بأي ثمن، و«مهما كانت التضحيات في الأرواح».
استخلص الزرقاوي ان التطور الديمقراطي سيكون ضربة قاصمة لجماعته في العراق.
«الاستمرار في عمليات الجهاد (ويقصد الاغتيالات والقنابل الانتحارية)، سيكون بالغ الصعوبة بسبب الفجوة التي ستتسع بيننا وبين اهل هذه الأرض (يقصد العراقيين)، تقول الرسالة في تحليل يعبر عن برود اعصاب استراتيجي: كنا نتمنى ان يتمتع اليسار والتحالف المناهض لمشروع الديمقراطية في العراق بمثله: «كيف يمكن ان نستمر في القتال ضد ابنائهم وابناء عمومتهم، وما هو تبرير هذا الاستمرار عندما ينسحب الأمريكان الذين يمسكون بزمام السلطة من المدائن والبلاد؟ ديمقراطيتهم قادمة، واذا اخفقنا في الحيلولة دون قدومها فلن يكون لجهادنا او حتى وجودنا هنا مبرر بعد الآن».
أحس الزرقاوي بخطورة ما حدث، خاصة وان اتصالاته بالقاعدة وشبكة الاسلامويين استكشفت تجربة افغانستان. فتحدى الشعب الأفغاني الارهاب والقاعدة والطالبان وتدفق على صناديق الاقتراع، فلم يبق لأعداء الديمقراطية تبرير في استمرار القتال. وانقسم ما بقي من الطالبان والمقاومين للديمقراطية الي مجموعات. غالبية من زعماء العشائر وساسة الطالبان السابقين بدأوا الاتصالات بالحكومة الجديدة، مفضلين انضمامهم للمشروع الديمقراطي، وان يكونوا أقلية داخل النظام السياسي بصوت مسموع على برد العزلة الأخرس.
أقلية متطرفة بدأت الصراع ضد المجموعة الأولى، مفضلين الاستمرار في القتال، فواجهوا عزلة من المدنيين وشيوخ العشائر الذين تعبوا من الحرب، ومن استنزاف «المجاهدين» لمواردهم. المقاتلون الأجانب، وهم اقلية، أحسوا انهم، كضيوف ثقلاء لا مبرر لوجودهم، سيدفعون ثمن الخلاف بين الفئتين، فرحلوا يبحثون عن مستنقعات اخرى او معارك عدمية جديدة يخوضونها.
والديمقراطية، حسبما علمنا التاريخ منذ ثورة الانجليز الأولى، وانتزاعهم للماجنا كارتا، هي ثمار العرق والدم والدموع، وليست نبتة زينة تشترى من قسم ورود هارودز، وهو ما عرفه العراقيون، اولا الأكراد الذين دفعوا ثمن المطالبة بحق تقرير المصير، ضحايا لغاز علي الكيماوي السام، ثم شيعة الجنوب الذين ذبحوا في انتفاضة مارس 1991، وعرب الأهوار الذين خسروا بيئتهم لبولدوزارات البعث، والآن عرب العراق السنة الذين انتفضوا في ثورة الأصابع البنفسجية السلمية الديمقراطية يوم الأحد، يخوضون الجدل، واغلبهم سيختار العراق بالدخول في العمل السياسي، والاشتراك في انتخابات نهاية العام، وقد يدفع بعضهم التضحيات عنما يتشدد المسلحون البعثيون رافضين الحوار، كما حدث مع الأقلية العنيفة من الطالبان.
ولذا كان تحذير الزرقاوي: «إذا لم ننجح في إيقاف الانتخابات (في العراق)، فمن الأفضل ان نحزم أمتعتنا ونرحل». وهذا يمكن ترجمته إلى: «سيتمكن التحالف الذي تقوده بريطانيا وامريكا من تجفيف مستنقع آخر كنا نرتع فيه، كما حدث مع تجفيف مستنقع افغانستان».
صحيح أن الديمقراطية ركن مهم من أركان استراتيجية حرب الرئيس بوش، وحليفه بلير، على الارهاب، واستراتيجية مطاردة الارهابيين بسد الفجوات التي يتسللون منها بجدار الديمقراطية المنيع، وهو نجاح جديد في الحرب على الارهاب، الا ان الفضل الأول في الانتصار في فصل العراق يوم الأحد الماضي، يعود اولا لبطولة الشعب العراقي وشجاعته.
وبرافو لنجاح ثورة الاصبع البنفسجي... الصبغة الديمقراطية السلمية.