يدخل لبنان اليوم،‮ ‬بفعل الانتفاضة الشعبية‮ ‬غير المسبوقة،‮ ‬في‮ ‬فترة حرجة من تاريخه،‮ ‬تتهيأ وتنضج الشروط فيها للانتقال بالبلاد إلى حقبة جديدة،‮ ‬مختلفة بالكامل عن الحقبة السابقة الممتدة من زمن الاستقلال حتى هذه اللحظة‮. ‬ربما‮ ‬يكون من الأصح القول بأننا نمر في‮ ‬منعطف تاريخي‮ ‬تأخر لبنان نصف قرن من الزمان لكي‮ ‬يدخل فيه‮. ‬
كان من الممكن لاتفاق الطائف أن‮ ‬يكون المدخل إلى هذه الحقبة الجديدة،‮ ‬على أنقاض الحرب الأهلية ومنطقها‮. ‬وهي‮ ‬حرب تحولنا فيها جميعنا،‮ ‬أحزاباً‮ ‬ومواطنين،‮ ‬بإرادتنا أو خارج إرادتنا،‮ ‬بوعي‮ ‬منا أو من دون وعي،‮ ‬إلى أدوات للقوى الخارجية التي‮ ‬استقوينا بها،‮ ‬كل منا وفق سياساته واقتناعاته الإيديولوجية،‮ ‬ووفق مشاريعه الخاصة لمستقبل لبنان،‮ ‬وبوهم تولد عندنا جميعنا بإمكانية استخدام هذه القوى الخارجية ليحقق كل منا انتصاره على خصومه‮. ‬وتحول لبنان،‮ ‬بفعل ذلك الوضع خلال الحرب،‮ ‬إلى ساحة صراع بين تلك القوى حول مصالح كل منها،‮ ‬المناقضة في‮ ‬الشكل وفي‮ ‬الأساس لمصالح لبنان وشعبه ولكل قواه السياسية‮. ‬كان من الممكن لاتفاق الطائف أن‮ ‬يكون المدخل إلى التغيير الديمقراطي،‮ ‬كمرحلة أولى تليها مراحل لاحقة أكثر تقدماً،‮ ‬لو لم‮ ‬يتم الانقلاب عليه منذ اللحظات الأولى،‮ ‬بقرار خاطئ هو بمستوى الخطيئة،‮ ‬بحق سوريا ولبنان،‮ ‬اتخذه الأشقاء السوريون الذين أوكل إليهم من قبل الدول العربية والمجتمع الدولي‮ ‬تطبيق بنوده‮. ‬وشاركهم في‮ ‬الخطأ والخطيئة فريق من اللبنانيين ممن اختيروا بوعي‮ ‬ليشكلوا أساس الدولة الأمنية التي‮ ‬سادت خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية،‮ ‬وليمارسوا،‮ ‬من موقع المنتصر في‮ ‬الحرب الأهلية على الفرقاء الآخرين،‮ ‬في‮ ‬عملية الفساد والإفساد،‮ ‬فاقدين الإحساس بالمسؤولية الوطنية،‮ ‬كلبنانيين‮ ‬ينتمون إلى الوطن اللبناني‮.

‬وكان من الطبيعي‮ ‬أن‮ ‬يؤدي‮ ‬ذلك النمط من السياسات،‮ ‬من قبل الراعي‮ ‬السوري‮ ‬وشركائه اللبنانيين،‮ ‬التي‮ ‬سادت خلال الأعوام الماضية المليئة بالمخاطر ذات الصلة بنتائج الحرب الأهلية،‮ ‬إلى تعطيل الوعي‮ ‬لدى الكثرة من اللبنانيين،‮ ‬وإلى تغييب السياسة من الحياة العامة،‮ ‬السياسة السياسية،‮ ‬والسياسة الاقتصادية والاجتماعية،‮ ‬والسياسة الثقافية‮. ‬واختزلت السياسة،‮ ‬في‮ ‬مجالاتها كافة،‮ ‬في‮ ‬نادي‮ ‬أهل السلطة،‮ ‬إلا ما ندر‮. ‬وكان هؤلاء النادرون من أهل السياسة النظيفة عاجزين عن اختراق تلك الحصون المحصنة في‮ ‬نادي‮ ‬الطبقة السياسية الحاكمة‮. ‬وانكفأ المواطنون،‮ ‬في‮ ‬ظل تلك الظروف الصعبة،‮ ‬في‮ ‬ما‮ ‬يشبه اليأس،‮ ‬عن الاهتمام بالشأن العام،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك ما‮ ‬يتصل بقضاياهم،‮ ‬وما أكثرها وما أشد الحاجة إلى الاهتمام بها‮. ‬وتراجعت إلى ما‮ ‬يشبه الموت الأحزاب كلها،‮ ‬لا سيما منها حاملة المشاريع الكبرى للتغيير،‮ ‬وغرقت في‮ ‬أزماتها‮. ‬وتحولت النقابات العمالية ومؤسسات المجتمع المدني‮ ‬إلى منابر احتجاج خجولة،‮ ‬غير واضحة الاتجاهات والرؤى،‮ ‬وفقدت صلتها بناسها‮. ‬وتحول لبنان إلى ساحة من نوع جديد،‮ ‬مختلفة في‮ ‬مواصفاتها وفي‮ ‬نوع اللاعبين فيها وفي‮ ‬أهدافهم،‮ ‬عن الساحة السابقة التي‮ ‬كانت الحرب الأهلية صيغتها ومسرحها‮. ‬إذ صار لبنان،‮ ‬في‮ ‬نظر اللاعب الجديد،‮ ‬حقل صراع بين قبائل تتحكم الغرائز في‮ ‬انقساماتها،‮ ‬فاقداً‮ ‬صلته بمقومات الوطن الحقيقي،‮ ‬مما جعله بحاجة إلى وصاية دائمة من قبل توأمه السوري‮. ‬

‬وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬كان فيه لبنان‮ ‬يعيش مأساته الجديدة تلك كان العالم‮ ‬يشهد تغيرات كبرى‮. ‬وهي‮ ‬تغيرات سريعة مذهلة في‮ ‬اتجاهات سيرها‮. ‬وكان من نتائجها المباشرة أن القطب الامريكي‮ ‬الأوحد المهيمن على العالم قد وصل بقوته العسكرية إلى مسافة قريبة من حدودنا،‮ ‬من دون أن‮ ‬يدرك القابضون على مواقع القرار والمتحكمون بها في‮ ‬لبنان وسوريا،‮ ‬وفي‮ ‬سائر البلدان العربية،‮ ‬معنى ودلالات ومفاعيل هذه التغيرات‮. ‬وظلوا‮ ‬يمارسون سياساتهم وسلطاتهم كما لو أن شيئاً‮ ‬لم‮ ‬يحصل،‮ ‬وكأن الطوفان الجارف الذي‮ ‬يجتاح العالم لا‮ ‬يعنيهم‮. ‬ذلك أن العقول التي‮ ‬كان صدام حسين نموذجها الصارخ لا تملك القدرة على رؤية تطور الأحداث والأشياء لا بالعين المجردة ولا بالبصيرة‮. ‬ويظل أصحابها‮ ‬يمارسون مغامراتهم وعبثهم حتى النهاية،‮ ‬النهاية المفجعة‮. ‬وهو ما حصل في‮ ‬العراق‮. ‬وإذ‮ ‬يجد أصحاب هذه العقول أنفسهم في‮ ‬اللحظة الأخيرة أمام أقدارهم وأقدار شعوبهم،‮ ‬فإنهم لا‮ ‬يجدون مفراً‮ ‬من الانصياع للاعب الكبير الآتي‮ ‬من موقع هيمنته على العالم،‮ ‬ليقرر بالنيابة عن أصحاب القرار في‮ ‬بلدانهم،‮ ‬وبالنيابة عن أصحاب القضية الأصليين الغائبين والمغيبين،‮ ‬شعوباً‮ ‬وقوى تغيير،‮ ‬مصائرهم ومصائر بلدانهم،‮ ‬في‮ ‬الراهن من الزمن وحتى في‮ ‬مستقبل‮ ‬غير محدود وغير محدد‮.‬
وفي‮ ‬الواقع فإننا الآن،‮ ‬في‮ ‬البلدان العربية،‮ ‬في‮ ‬هذه اللحظة الحرجة المفتوحة فيها التطورات على كل الاحتمالات‮. ‬وتكاد تكون القضية اللبنانية اليوم في‮ ‬مثل ما هي‮ ‬عليه القضايا العربية الأخرى،‮ ‬لولا الانتفاضة الشعبية العارمة التي‮ ‬لم‮ ‬يشهد لها عالمنا العربي‮ ‬مثيلاً‮. ‬فالأشقاء السوريون بدأوا بسحب قواتهم ومخابراتهم من لبنان بغير الطريقة التي‮ ‬كان‮ ‬يريدها اللبنانيون‮. ‬ينسحبون تحت الضغط الخارجي،‮ ‬وليس وفقاً‮ ‬لاتفاق الطائف،‮ ‬ولا تجاوباً‮ ‬مع إرادة الشعب اللبناني‮. ‬لكنهم خلّفوا وراءهم،‮ ‬وهم‮ ‬ينسحبون،‮ ‬أناساً‮ ‬ممن‮ ‬ينطقون،‮ ‬أو‮ ‬يدعون النطق،‮ ‬باسمهم،‮ ‬غير مدركين أن اللغة التي‮ ‬يستخدمونها صارت بالنسبة لسوريا اليوم لغة ماضية،‮ ‬وأن استحضار مفردات التصنيف والتخوين هي‮ ‬من مخلفات الحرب الأهلية التي‮ ‬لم تعد تجدي‮ ‬نفعاً‮ ‬في‮ ‬إعادة الانقسام إلى اللبنانيين الذين توحدوا تحت شعار الحرية والسيادة والاستقلال‮. ‬وكأني‮ ‬بهؤلاء‮ ‬يأملون،‮ ‬في‮ ‬سلوكهم هذا،‮ ‬أن تحصل معجزة ما،‮ ‬أو فتنة مفتعلة ما،‮ ‬تعيد لهم بقرار لبناني‮ ‬ذهب وقته،‮ ‬أو بقرار عربي‮ ‬ودولي‮ ‬ذهب وقته أيضاً،‮ ‬الوصاية السورية التي‮ ‬ذهب دورها‮. ‬وهم لذلك‮ ‬يكابرون‮ ‬،‮ ‬ويتأخرون في‮ ‬اتخاذ الموقف الذي‮ ‬لم‮ ‬يعد بد من اتخاذه،‮ ‬لأن التأخر في‮ ‬اتخاذه سيكون مكلفاً‮ ‬بالنسبة لهم،‮ ‬من دون أن‮ ‬يمس في‮ ‬جوهر التغيرات الجارية على الأرض في‮ ‬لبنان،‮ ‬الذاهبة بالبلاد إلى مستقبل مضيء مختلف‮.‬
المطلوب تحقيقه من دون إبطاء هو مجموعة أمور تتحقق بالتزامن،‮ ‬بدءاً‮ ‬باستكمال انسحاب القوات السورية ومخابراتها إلى داخل الحدود الدولية،‮ ‬وأن‮ ‬يرافق ذلك تشكيل حكومة مؤقتة موثوقة ذات وظيفة واحدة هي‮ ‬تأمين الإشراف على الانتخابات النيابية،‮ ‬والشروع،‮ ‬باسم المجلس النيابي‮ ‬المنتخب،‮ ‬بتحقيق ما‮ ‬يطالب به اللبنانيون،‮ ‬وهم‮ ‬يعلنون انتماءهم إلى وطنهم اللبناني،‮ ‬إلى علمه ونشيده ومؤسساته الديمقراطية‮. ‬وما‮ ‬يطالب به اللبنانيون هو تحقيق مضامين الحرية والسيادة والاستقلال،‮ ‬الأقانيم الثلاثة التي‮ ‬يتكون منها الوطن،‮ ‬والتي‮ ‬كانت مخطوفة من الداخل والخارج خلال الأعوام السابقة التي‮ ‬أعقبت انتهاء الحرب،‮ ‬وتغيير الطاقم السياسي‮ ‬القديم في‮ ‬موقع القرار بكل رموزه،‮ ‬وإجراء مصالحة وطنية شاملة من خلال إنهاء كافة ملفات الحرب الأهلية من دون استثناء،‮ ‬والشروع في‮ ‬الوقت عينه في‮ ‬معرفة الحقيقة حول اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري‮. ‬والحقيقة في‮ ‬هذه القضية تتجاوز معرفة الذي‮ ‬دبر الاغتيال ونفذه،‮ ‬ومعاقبته،‮ ‬إلى تحرير لبنان في‮ ‬صورة نهائية من كل محاولة كانت ترمي‮ ‬إلى إلحاقه بأنظمة الاستبداد العربية،‮ ‬الذاهبة إلى الانقراض الواحد تلو الآخر‮.‬

وواضح،‮ ‬بالنسبة إلى ما تشير إليه هذه الإرادة اللبنانية الجديدة الواعية،‮ ‬أن الجوهر الأساسي‮ ‬في‮ ‬كل ما ترمي‮ ‬إليه هذه الخطوات في‮ ‬ترابطها بعضها ببعض،‮ ‬وفي‮ ‬تسلسلها الزمني،‮ ‬هو الذهاب في‮ ‬عملية الانتقال من لبنان الماضي‮ ‬إلى لبنان المستقبل،‮ ‬الذهاب بها إلى نهاياتها،‮ ‬من دون السماح لأية قوة داخلية أو خارجية بتضييع الاتجاه أو تشويهه أو حرفه عن الطريق الموصل إلى ذلك اللبنان الجديد المنشود،‮ ‬المولود في‮ ‬هذه العملية القيصرية،‮ ‬الأقل إيلاماً،‮ ‬بفعل التقاليد الديمقراطية اللبنانية العريقة،‮ ‬من أية عملية قيصرية مما نشهد مثيله بالقرب من حدودنا،‮ ‬العراق،‮ ‬وفي‮ ‬الأماكن البعيدة،‮ ‬السودان،‮ ‬وقبل كليهما الجزائر‮. ‬ولن نضيف أمثلة أخرى لا تقل أهمية‮.‬
إن لبنان الذي‮ ‬يريده اللبنانيون اليوم هو مختلف،‮ ‬بالنسبة للبنانيين وللأجيال الشابة خصوصا،‮ ‬وبالنسبة للقوى السياسية على اختلافها،‮ ‬عما كانوا قد اختاروه وخبروا سيئاته في‮ ‬الجمهورية الأولى،‮ ‬قبل الحرب الأهلية وخلالها،‮ ‬وحتى في‮ ‬زمن الجمهورية الثانية،‮ ‬جمهورية الطائف التي‮ ‬ولدت ميتة بفعل الانقلاب على الطائف وعلى الدستور الذي‮ ‬صيغ‮ ‬على أساس اتفاق الطائف‮. ‬لبنان الجديد هو لبنان الجمهورية الثالثة التي‮ ‬تنشأ اليوم،‮ ‬بفعل الانتفاضة الشعبية التي‮ ‬فجرها اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري‮ ‬ودعت إليها قوى المعارضة،‮ ‬تطبيقاً‮ ‬متأخراً‮ ‬لبنود الطائف،‮ ‬في‮ ‬ظروف جديدة مختلفة جوهرياً‮ ‬عن الظروف السابقة،‮ ‬لم‮ ‬يعد ممكناً‮ ‬القفز فوقها‮. ‬وهي‮ ‬ظروف نزعم أن اللبنانيين حين خرجوا بكامل وعيهم وإرادتهم إلى الشارع إنما كانوا‮ ‬يريدون التأكيد بأن زمن المحاصصة الطائفية قد ولى،‮ ‬وأن لبنان الوطن الحقيقي‮ ‬الديمقراطي‮ ‬التعددي،‮ ‬هو الوطن الذي‮ ‬أعلنوا انتماءهم إليه‮. ‬وهو الوطن الذي‮ ‬يريدون أن تكون مؤسساته ديمقراطية بالمعنى الكامل للمفهوم،‮ ‬وأن تكون لكل مؤسسة وظيفتها التي‮ ‬يحددها لها الدستور،‮ ‬من دون أدنى تجاوز لها،‮ ‬وأن تكون مؤسسة القضاء مؤسسة مستقلة محصنة ضد تدخل السياسيين فيها،‮ ‬وأن تكون القوانين التي‮ ‬تحكم الانتخابات كلها،‮ ‬البلدية والمحلية والنيابية،‮ ‬قوانين ديمقراطية،‮ ‬وأن‮ ‬يكون الجيش جيشاً‮ ‬لكل لبنان،‮ ‬جيشاً‮ ‬للدفاع عن الوطن،‮ ‬لا شريك له في‮ ‬وظيفته هذه أحد،‮ ‬ولا وكالة لأحد بالنيابة عنه للقيام بها،‮ ‬وأن تكون الأجهزة الأمنية معنية بما هو مطلوب منها في‮ ‬الحفاظ على أمن البلاد وأمن المواطن،‮ ‬والإقلاع نهائياً‮ ‬عن تدخلها وإدخالها في‮ ‬السياسة،‮ ‬وأن‮ ‬يُصار إلى تطهير الإدارة وتحريرها من كل فساد ساد فيها،‮ ‬وتحصينها،‮ ‬أسوة بكل مؤسسات الدولة،‮ ‬من كل تجاوز لصلاحياتها،‮ ‬بواسطة مؤسسات المراقبة،‮ ‬وبواسطة المجتمع الذي‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يعمل الجميع لكي‮ ‬يكون ديمقراطياً‮ ‬بكل المعاني،‮ ‬وأن تكون مؤسساته ديمقراطية،‮ ‬وأن‮ ‬يكون المواطن،‮ ‬الذي‮ ‬هو الأساس في‮ ‬حياة كل وطن،‮ ‬مصانة حقوقه كاملة،‮ ‬من دون أي‮ ‬تمييز في‮ ‬الحقوق والواجبات‮. ‬هذا كله،‮ ‬بتفاصيله،‮ ‬يحدد مضمون شعار الحرية الذي‮ ‬يرفعه اللبنانيون في‮ ‬انتفاضتهم‮. ‬أما السيادة والاستقلال فيحدد مضمونهما الحقيقي‮ ‬التأكيد من قبل اللبنانيين ومن قبل الأشقاء العرب جميعاً،‮ ‬لا سيما البلد الشقيق الجار التوأم،‮ ‬سوريا،‮ ‬التأكيد من دون أي‮ ‬التباس بأن لبنان بلد سيد مستقل،‮ ‬أسوة بكل البلدان العربية الأخرى،‮ ‬يقرر هو،‮ ‬من دون سواه بالمطلق،‮ ‬سياساته وخياراته،‮ ‬من خلال مؤسساته التمثيلية ومن خلال أحزابه ومنظماته ومجموعاته المدنية على اختلافها‮. ‬وهو إقرار لا‮ ‬يحق لأي‮ ‬فريق من اللبنانيين أن‮ ‬يخرقه باسم عقائد وسياسات ومشاريع واقتناعات إيديولوجية من أي‮ ‬نوع‮. ‬على أن‮ ‬يترافق ذلك التأكيد بتأكيد آخر،‮ ‬قام استقلال لبنان على أساسه،‮ ‬وهو أن لبنان جزء من الدول العربية،‮ ‬شريك لأشقائه في‮ ‬كل ما‮ ‬يتصل بالقضايا المشتركة ـ وهو كان عضواً‮ ‬مؤسساً‮ ‬في‮ ‬الجامعة العربية قبل ستين عاماً‮ ‬ـ من دون أن‮ ‬يجري‮ ‬تحميله،‮ ‬في‮ ‬أي‮ ‬شكل من الأشكال،‮ ‬أي‮ ‬عبء‮ ‬يفوق قدراته في‮ ‬أي‮ ‬من القضايا العربية المشتركة بما في‮ ‬ذلك في‮ ‬القضية الفلسطينية العزيزة على قلوب اللبنانيين والتي‮ ‬أعطوها أكثر مما في‮ ‬وسعهم‮. ‬وكانوا أول من حرر أرضهم من الاحتلال الإسرائيلي،‮ ‬بالصمود فيها وبالمقاومة‮. ‬وسوف‮ ‬يكونون آخر من‮ ‬يوقع سلاماً‮ ‬مع إسرائيل،‮ ‬إذا ما أتيح لهذا السلام أن‮ ‬يأتي‮. ‬وانتماء لبنان العربي‮ ‬هذا لا‮ ‬يختلف عليه اللبنانيون‮. ‬بل هم معنيون بأن‮ ‬يكون بلدهم شريكاً‮ ‬لأشقائه في‮ ‬إقامة اتحاد عربي‮ ‬من نوع الاتحادات التي‮ ‬تنشأ في‮ ‬عالم اليوم،‮ ‬اتحاد‮ ‬يقوم على أساس احترام سيادة كل بلد،‮ ‬وذلك تحقيقاً‮ ‬للمصالح المشتركة التي‮ ‬هي،‮ ‬بالنسبة للبلدان العربية،‮ ‬أعمق وأقوى وأكثر شمولاً‮ ‬من تلك التي‮ ‬يقوم عليها الاتحاد الأوروبي‮ ‬وسائر الاتحادات الإقليمية ألأخرى‮. ‬
لكن عملية التغيير هذه التي‮ ‬تعبر عنها مضامين الشعارات التي‮ ‬يرفعها اللبنانيون في‮ ‬انتفاضتهم،‮ ‬إنما تتطلب أن تكون القوى السياسية على اختلافها قد خرجت جميعها من الحرب الأهلية ومن منطقها،‮ ‬وبدأت تمارس نقدها لتاريخها السابق كله،‮ ‬من أجل أن تتحول إلى قوى ديمقراطية في‮ ‬تعاملها مع المنتمين إليها،‮ ‬وفي‮ ‬تعاملها بعضها مع بعض من دون أفكار مسبقة،‮ ‬وفي‮ ‬تعاملها مع شعبها،‮ ‬وأن‮ ‬يكون الطائفيون بينها قد بدأوا‮ ‬يشعرون بالحاجة الوطنية إلى الخروج الحقيقي‮ ‬من الصيغة التي‮ ‬شهدنا نماذج صارخة عنها في‮ ‬كل العهود،‮ ‬منذ الاستقلال وحتى هذه اللحظة التاريخية التي‮ ‬نعيش تحولاتها الكبرى في‮ ‬اتجاه المستقبل‮.‬

وعندما‮ ‬يصبح لبنان،‮ ‬مثلما هو سائر في‮ ‬اتجاهه من الحرية والسيادة والاستقلال والالتزام بالنظام الديمقراطي‮ ‬التعددي،‮ ‬يصبح أكثر قدرة على إقامة علاقات صحيحة مع أشقائه،‮ ‬لا سيما الأقربين إليه في‮ ‬التاريخ والجغرافيا،‮ ‬سوريا،‮ ‬وغداً‮ ‬فلسطين بعد أن تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة،‮ ‬وذلك على قاعدة الاحترام المتبادل لسيادة وخصوصية كل بلد،‮ ‬وفي‮ ‬ضوء المصالح المشتركة،‮ ‬وهي‮ ‬كثيرة لا تحصى‮. ‬ولن‮ ‬يعكر مثل هذا النوع من العلاقات التي‮ ‬ينبغي‮ ‬الشروع في‮ ‬تحديدها من دون إبطاء،‮ ‬بعد استكمال خروج القوات السورية ومخابراتها إلى الحدود الدولية،‮ ‬وبعد الانتهاء من الانتخابات النيابية والرئاسية،‮ ‬لن‮ ‬يعكر هذه العلاقات ما ساد من ردود فعل سلبية إزاء العمال السوريين،‮ ‬من نوع ما قام به بعض المهووسين،‮ ‬وهو أمر مستنكر،‮ ‬ويتعارض مع تقاليد اللبنانيين في‮ ‬علاقاتهم مع الأشقاء وحتى مع الذين لا تربط بينهم علاقة قربى في‮ ‬التاريخ والثقافة والحوار وفي‮ ‬علاقة الدم،‮ ‬وما أكثرها بين اللبنانيين والسوريين خصوصاً‮.‬
إن مصلحة لبنان وسوريا،‮ ‬ومصلحة الشعبين الشقيقين،‮ ‬ومصلحة كل اللبنانيين على وجه الخصوص،‮ ‬هي‮ ‬أن تتم عملية التغيير الجارية من دون تدخل خارجي‮ ‬من أي‮ ‬نوع‮ . ‬فللخارج دائماً‮ ‬مصالحه‮. ‬ومصالحه،‮ ‬حتى وإن تقاطعت في‮ ‬لحظات معينة مع مصالحنا،‮ ‬فإنها تبقى مصالح خارجية،‮ ‬يحدد دورها اللاحق في‮ ‬بلداننا مستوى قدراتنا المتدني،‮ ‬يا للأسف،‮ ‬وتفكك بلداننا بفعل سيادة أنظمة الاستبداد فيها‮. ‬كما‮ ‬يحدده حجم القوى المتدخلة،‮ ‬وموقعها الراهن في‮ ‬ظل المتغيرات الكبرى التي‮ ‬يشهدها العالم منذ مطالع العقد الأخير من القرن الماضي‮. ‬
أما قضايانا الداخلية،‮ ‬ذات الصلة بترتيب بيتنا وشؤوننا،‮ ‬من سلاح المقاومة،‮ ‬إلى وضع المخيمات الفلسطينية،‮ ‬إلى نوع السلطة،‮ ‬إلى كل ما‮ ‬يتصل بإعادة ترتيب العلاقة بين القوى السياسية من مواقعها المختلفة،‮ ‬فتلك أمور سيجد اللبنانيون الصيغة الأفضل لحلها وحدهم،‮ ‬وبإرادتهم،‮ ‬وبوعيهم لمصالح تطور بلدهم،‮ ‬ومن موقع المسئولية الوطنية،‮ ‬التي‮ ‬هي‮ ‬الأساس في‮ ‬كل الظروف‮.‬
إن التغيير المنشود هذا،‮ ‬الذي‮ ‬يذهب اللبنانيون في‮ ‬اتجاهه بوعي‮ ‬وطني‮ ‬ديمقراطي‮ ‬جديد كان كامناً‮ ‬ومقموعاً،‮ ‬يذهبون إليه من خلال انتفاضتهم العارمة،‮ ‬وفي‮ ‬مقدمة الصفوف منها الشباب،‮ ‬إنما‮ ‬يحمل عنوان الجمهورية الثالثة،‮ ‬بالمعاني‮ ‬والمهمات التي‮ ‬أشرنا إليها،‮ ‬وبالآفاق التي‮ ‬ترسمها لها التحولات الجارية‮. ‬ولعلي‮ ‬لا أسيء إلى نفسي‮ ‬ولا أظلم القارئ إذا ما عدت بالذاكرة إلى عام ‮١٠٠٢ ‬،‮ ‬العام الذي‮ ‬أصدرت فيه كتابي‮ »‬نحو جمهورية ثالثة‮». ‬وهو كتاب أردت منه أن‮ ‬يكون منطلقاً‮ ‬للتفكير وللحوار وللنقاش بين اللبنانيين وقواهم السياسية والاجتماعية والثقافية للخروج مما كنا نعيش فيه،‮ ‬مستنداً‮ ‬في‮ ‬ذلك إلى الإنجاز الذي‮ ‬تحقق بتحرير أرضنا من الاحتلال الإسرائيلي،‮ ‬بدور أساسي‮ ‬لأهلنا الصامدين في‮ ‬الجنوب وبدور مكمل للمقاومة بالسلاح وللمقاومة بكل الوسائل السياسية والثقافية والدبلوماسية مجتمعة التي‮ ‬انخرط فيها جميع اللبنانيين،‮ ‬في‮ ‬أعقاب انتهاء الحرب الأهلية.إن الثقة بالمستقبل،‮ ‬الثقة بولادة لبنان الجديد،‮ ‬هي‮ ‬بالكامل في‮ ‬هذين الوعي‮ ‬والإرادة مجتمعين اللذين عبرت عنهما الانتفاضة الشعبية،‮ ‬وفي‮ ‬المقدمة منها وفيها ما أعلنته الأجيال الشابة عن التزامها بالنضال لصنع مستقبلها ومستقبل وطنها لبنان،‮ ‬ضد كل تدخل خارجي‮ ‬من أي‮ ‬نوع،‮ ‬من الأشقاء والأصدقاء ومن كل الطامعين‮. ‬وذلك من خلال انخراطهم الواعي‮ ‬والحازم في‮ ‬عملية التغيير الديمقراطي‮ ‬والسير بها إلى نهاياتها التي‮ ‬لا تنتهي‮.‬