هناك ظاهرة متواصلة منذ قرون وهي المنافسة التاريخية بين المؤسسة الدينية - زرادشتية كانت أو شيعية - ومؤسسة البلاط الملكي. ولا يقل دور الاخيرة في حياة الايرانيين عن دور الاولى غير انها اقصيت من الحكم بعد سقوطها في 1979 وقد اصبحت مهمشة برغم ادعاءات قادتها في الخارج.
ويبدو ان الايرانيين - او بالاحرى الشرائح التحديثية منهم - اخذوا يوجهون النقد لهاتين المؤسستين التقليديتين او اي مؤسسة تتبنى الوراثة في الحكم او لا تتقبل التداول في كل اركان السلطة. وبالنسبة الى رسوخ المؤسسة الملكية واستحكامها في ايران يرى بعض المفكرين الايرانيين في مبدأ ولاية الفقيه استمراراً لمبدأ الكاريزما الكسروانية (نسبة الى الأكاسرة) التي كانت عاملاً لتوحيد الامبراطورية الفارسية قبل الاسلام. ولو أن هذه القوة الجماهيرية الهائلة، التي اطاحت النظام الملكي واقامت الثورة الايرانية، كانت في دولة اخرى غير مثقلة بإرث استبدادي شرقي كايران، لأدت الى اجتثاثه من جذوره واقامة نظام جمهوري انتخابي بالكامل.
فاذا استثنينا الفترة التي كانت فيها ايران تابعة للامبراطورية الاسلامية بشكل او آخر فإن المؤسسة الدينية تقربت كثيراً من السلطة السياسية حين اسس الشاه اسماعيل الصفوي في مطلع القرن السادس عشر الميلادي اول امبراطورية شيعية في ايران. غير ان دور المؤسسة الدينية تقلص بعدما ناصبها الشاه رضا البهلوي (1925 - 1941) العداء. وقد استخدم معها ابنه الشاه محمد رضا سياسة العصا والجزرة. لكن وباتساع المد الاسلامي في الستينات من القرن المنصرم اخذت المؤسسة الدينية في ايران تعزز مكانتها بين الجماهير الشعبية حتى تمكنت وبمساعدة هذه الجماهير من أن تقضي ليس على الشاه فقط بل على المؤسسة الملكية في ايران. وهذا بالطبع لا يعني ان الثورة قضت على كل الخطاب الموروث من ذلك العهد البائد.
وعقب قيام الثورة استقر زعيم الثورة الاسلامية آية الله الخميني في مدينة قم ليتفرغ للشؤون الفقهية وليشرف عن قرب على الحوزة الدينية هناك. لكن سرعان ما فقدت المؤسسة الدينية ثقتها بالقوى الاسلامية الليبرالية التي عينتها لادارة البلاد واخذت تتمسك بمقاليد السلطة بيدها. وفي هذا المجال قامت بتغيير مسودة الدستور المقترح الذي قامت شخصيات اسلامية ليبرالية بصياغته بأمر من الخميني نفسه واضافت اليه قضية ولاية الفقيه. وقد هيمن رجال الدين على السلطات الثلاث في البلاد وقاموا بادارتها خلال الحرب مع العراق بيد من حديد. وتتهم قوى سياسية منافسة، المؤسسة الدينية الحاكمة بالطغيان خلال هذه الفترة وقمع كافة القوى المعارضة لها في المجتمع الايراني.
ظهرت أولى مظاهر النزعة الفارسية لدى رجال الدين في مطلع الثورة و ذلك عندما فرضت السلطة الثورية، الاقامة الجبرية على الزعيم التركي الآذري اية الله كاظم شريعتمداري و الزعيم العربي الاهوازي اية الله الشيخ محمد طاهر الشبيري الخاقاني، واجبرت الزعيم الكردي السني الشيخ عزالدين الحسيني على الهجرة الى اوروبا. غير ان هذه النزعة كانت بحاجة الى عقدين من الزمن لتصبح مكوناً اساسياً للسياسات الرسمية في ايران.
حاول رفسنجاني خلال ولايته (1989 - 1997) فتح منافذ التنفيس بفتح الاجواء الثقافية غير ان الوضع المحتقن كاد ان يؤدي الى ثورة في الثورة لولا ظهور الحركة السياسية الاصلاحية التي أدت الى انتخاب خاتمي رئيساً للجمهورية والمستمرة ولايته حتى آب (اغسطس) المقبل. فقد ادى وصول رجال الدين الى السلطة في ايران الى وقوع تحولات مهمة في حياتهم الفكرية و السياسية و الاجتماعية.
وكانت المؤسسة الدينية في ايران - بشقيها الشيعي الاكثري و السني الأقلّي - متماسكة عشية الثورة الاسلامية في ايران وقد لعبت دور الحزب القائد للثورة نتيجة ضعف الاحزاب اليسارية والليبرالية والديموقراطية؛ غيران الانقسمات بدأت تظهر بعد الثورة رويداً رويداً.
وقد توسعت المؤسسة الدينية الشيعية بعد قيام الثورة حيث كانت تقتصر قبل ذلك بحوزتين اساسيتين هما حوزة قم (وسط)، وهي الاهم، و حوزة مشهد (شمال شرق). وقد تم انشاء فروع لهذه الحوزات ليس في المحافظات والمدن فحسب بل في بعض الاقضية ايضاً.
فالظاهرة الاهم في الحوزات الدينية و خاصة في مدينة قم هي ان التحديث والتحول شملا اكثر ما شملا فئات الشباب من رجال الدين. اذ يعتقد بعض المحللين بأن الظاهرة لا مثيل لها في العالم الاسلامي. وقد تعلمن رجال الدين الذين مارسوا السلطة في ايران بسبب تخصيص جل جهدهم للعمل السياسي حيث لم نرى لهم اثرا فقيهاً مهماً قياساً بالذين ابتعدوا عن السلطة. اي اننا يمكن ان نعبترهم رجال سياسة و ليس رجال دين. ويوجد حالياً نحو 44 الف طالب ديني في 360 مدرسة تابعة للحوزات الدينية ويدرّس فيها نحو 5 آلاف استاذ معمم. ويدرس هؤلاء الطلاب - الذين سيصبحون رجال دين )روحانيون بالفارسية) بعد بضعة اعوام - في عشرة فروع دينية وفقهية تخصصية: التفسير والعلوم القرآنية، وعلم الكلام، والفلسفة، والفقه الاسلامي، والحقوق والقضاء الاسلاميين، والدعاية (التبليغ)، و المظاهر، وتاريخ الاسلام، والعلوم الحديثة، ونهج البلاغة. كما توجد مواد تخصصية اعلى ودروس عامة. وانحصرت دروس وبحوث علماء الدين و منظري الفقه الشيعي قبل قيام الثورة الاسلامية في قضايا دينية ومذهبية تقليدية توارثوها جيلاً بعد جيل، اهمها المعاملات والعبادات والشؤون الشخصية التي يجب على الانسان المؤمن التمسك بها في حياته اليومية؛ لكنهم خصصوا في عهد الجمهورية الاسلامية مجالاً آخر لقضايا حديثة كالسلطة والحكومة في الاسلام او القضاء الحكومة او سائر العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والقضايا المستحدثة الاخرى التي لم تكن موجودة في القرون المنصرمة.
فنحو 90 في المئة من الدراسة في الحوزات الدينية الايرانية تتم باللغة العربية - وهذا ما يثير بعض القوميين الفرس - غير أن بعض المدارس الدينية قام بفتح صفوف للغة الانكليزية. ودخل الكمبيوتر والانترنت الى العديد من الحوزات الدينية وقد تأثر الطلبة الدينيون في نظرتهم للعالم و الدين بالعلوم الانسانية الحديثة كالفلسفة والقانون والعلوم السياسية. و هناك بعض الطلبة ورجال الدين الشباب الذين يتابعون الفلسفة الغربية ومنها ما يكتبه ميشيل فوكو او كارل بوبر او ما ينشر عن مفكرين حداثيين كنصر حامد ابو زيد وعبدالكريم سروش. وقد ادى كل ذلك الى خروج العديد من الطلبة ورجال الدين من العزلة التاريخية ومن شرنقة التقاليد القديمة.
وقد انشقت الحوزة الدينية في العقد الاخير الى تيارين سياسيين وفكريين اساسيين هما التيار التقليدي والتيار الحداثي وسادت اجواء قومية (فارسية) على بعض المدارس الدينية بعدما كانت تنادي بالأممية الاسلامية في مطلع الثورة. وتلعب هذه التيارات التي تضم رجال دين مسؤولين في الاجهزة الحكومية والقضائية تلعب دوراً مهماً على الساحة الدينية والسياسية بما فيها قضايا الانتخابات الرئاسية والنيابية في البلاد.
فعلى رغم الجهود الذي بذلها مفكرون اسلاميون، من الافغاني الى شريعتي، يبدو أن وقوع تحولات تحديثية جذرية في بنية الحوزات العلمية لن تتم إلا من باطنها أي أن يقوم بها رجال دين متنورون لهم تأثيرهم. وهذا ما نشاهده حالياً برغم ان العملية تتم ببطء، اذ ان التيار التقليدي يظهر مقاومة عنيدة امام التحديث في المجال الديني والفكري. ولا شك ان مصير الحداثة والتنمية السياسية والثقافية والاجتماعية في ايران منوط بمدى نجاح هذه العملية.
كاتب ايراني.
التعليقات