أحدث التقرير الذي أصدرته دائرة الإحصاء المركزية في إسرائيل بشأن الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والصحافية ذات الصلة المباشرة بالموضوع، وشكل الاستنتاج الذي توصل إليه التقرير والقائل: "بأن موجات الهجرة الكبرى إلى إسرائيل والتي مكنتها من الحفاظ على الأغلبية الديموغرافية التي سعت إليها إسرائيل والحركة الصهيونية قد أصبحت من أحداث الماضي" أوج هذا الجدل، ومما لا شك فيه أن معطيات الهجرة اليهودية لهذا العام الواردة في التقرير المذكور تثبت بشكل قاطع هذا الاستنتاج، لا سيما وأن الهجرة اليهودية إلى إسرائيل كانت على الدوام ولا تزال أحد المرتكزات الوجودية لإسرائيل. فقد سجلت الهجرة اليهودية إلى إسرائيل العام الماضي 2004 بحسب التقرير، أقل من 21 ألف مهاجر، مثل هذا العدد يشكل تراجعاً كبيراً بحد ذاته، للعام الثالث على التوالي، ويقول التقرير ان هذا العدد يشابه أعداد المهاجرين في سنوات الثمانين حين تراوح معدل المهاجرين سنوياً حينها ما بين تسعة آلاف إلى خمسة عشرة ألف مهاجر، ولكن المقصود من تراجع الهجرة اليهودية، هو ما يشير إليه التقرير حول نضوب خزان الهجرة اليهودية الأكبر في دول الاتحاد السوفياتي السابق، بعد أن استطاعت إسرائيل والحركة الصهيونية الاستفادة من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بعد انهيار الاتحاد المذكور، أما الآن فلم تعد التجمعات اليهودية في تلك الدول تبدي الاستعداد للهجرة إلى إسرائيل حتى أن جزءاً مهماً ممن هاجر منها في سنوات التسعين قد غادر إسرائيل في أول فرصة سنحت له.

وبحسب معطيات هذا التقرير، فإن أكبر موجتي هجرة شهدتهما إسرائيل مقارنة مع سنوات أخرى، كانت الأولى ما بين أعوام 1948 ـ 1951 والثانية ما بين عامي 1999 ـ 2000 بينما كانت أضعف موجات الهجرة بين سنوات 1980 ـ 1989 وتفيد معطيات التقرير ذاته أنه ما بين أعوام 1948 ـ 1951 وصل إلى إسرائيل 688 ألف مهاجر وما بين أعوام 1952 ـ 1959 وصل إليها 272 ألف مهاجر، ووصل إليها طوال سنوات الستين 374 ألف مهاجر، وسنوات السبعين 346 ألف مهاجر، بينما انخفضت وتائر هذه الهجرة بشكل حاد خلال سنوات الثمانين إلى أن وصلت الى 154 ألف مهاجر، أما في سنوات التسعين، أي من سنة 90 ـ 99 وصل إلى إسرائيل 200 ألف مهاجر، ووصل إليها في العام 2000، 176 ألف مهاجر، إلى جانب أن هذا العام نفسه شكل أول مؤشرات انخفاض الهجرة، حين وصلت بعد ذلك إلى 60 ألف مهاجر عام 2001، وإلى أقل من 30 ألف مهاجر عام 2002، ووصل إلى 20 ألف عام 2003 إلى أن انخفض إلى أقل من 18 ألفا عام 2004. التقرير يقيم استنتاجاته على المقولة الصهيونية التي استخدمتها طوال الوقت إسرائيل والحركة نفسها بصدد استجلاب اليهود "مبدئياً" إلى إسرائيل للمساهمة في بنائها اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وجرى التوجه على هذا الأساس إلى يهود جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق واليهود الروس لاحقاً لما يتمتع به هؤلاء من خبرات ويمتلكونه من إمكانيات كبيرة على الصعد المذكورة، في حين فتر الحماس الإسرائيلي ـ الصهيوني حيال ما تبقى من اليهود الشرقيين عامة والاثيوبيين خاصة "الفلاشا" بسبب تخلفهم الاجتماعي والثقافي، ولم تستطع إقناع الكثير من يهود أميركا وأوروبا القدوم إلى إسرائيل، دون أن تعلم إسرائيل أن باحتوائها هذه الكتلة الكبيرة بما تحمله من يهود مختلطين وشبه مختلطين وغير يهود، سوف تواجه أكبر معضلة في تاريخها تحت عنوان "من هو اليهودي؟" على اعتبار أن اليهود الروس باتوا يشكلون هذه الأيام ما نسبته ثلث السكان اليهود في إسرائيل لا سيما وأن الالحاح الصهيوني ـ الإسرائيلي للهجرة اليهودية لا يزال في أوجه لأجل المحافظة على الأغلبية اليهودية في إسرائيل وتثبيتها عند نسبة 80% كحد أدنى.

ويعزو التقرير مجمل الأسباب التي أدت إلى تراجع الهجرة اليهودية "وانخفاضها إلى مستوى الحضيض"، إلى عوامل وأسباب تتصل بالدرجة الأولى باستمرار الصراع على الأرض الفلسطينية وازدياد حدة وتائره صعوداً وهبوطاً خاصة في السنوات الأربع الأخيرة وما تركته من تداعيات وآثار كبيرة على الهجرة المعاكسة بالتحديد. حيث وصلت نسبة الذين تركوا إسرائيل من اليهود الذين هاجروا إليها في مطلع سنوات التسعين نسبة 10% من اليهود الروس فقط. ثم ان استقرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في روسيا وغيرها من دول الرابطة والسياسات الروسية الجديدة في استيعاب مواطنيها العائدين ساهم بدرجة كبيرة على نضوب خزان الهجرة اليهودي الروسي.
ويستخلص التقرير، بأنه يوجد اليوم في إسرائيل 5.3 مليون يهودي وهناك عدد مماثل من اليهود في الولايات المتحدة، ونصف مليون يهودي في فرنسا، و600 ألف في دول الاتحاد الأوروبي، و400 ألف في دول أميركا اللاتينية، و450 ألف في دول الاتحاد السوفياتي السابق، و350 ألف في كندا، ويؤكد التقرير بأن هذا التوزيع يعطي تفسيراً من كافة الجوانب وليس الدوافع والحوافز، بأن إسرائيل لا تزال عاجزة عن إقناع اليهود بترك أوطانهم والهجرة إليها.